المرأة قبل النفط

Women Before Oil

1200

[1]

المرأة قبل النفط

بقلم لونا العريض

زاوية أسبوعية ننشر من خلالها كتاب Women Before Oil (المرأة قبل النفط) وهو من تأليف لونا العريض وترجمته إلى اللغة العربية منال العريض.

لماذا قررت أن أكتب عن المرأة قبل النفط؟

لونا العريضكوني امرأة عايشت وعاصرت الحياة في البحرين، وهي تتغير منذ أواخر السبعينات من القرن الماضي إلى يومنا الحالي، أحسست بحاجة ماسة إلى أن أكتب وأسجل شيئاً عن الماضي.

فأنا إنسانة محبة للطبيعة، ومحافظة بعض الشيء. لقد نشأت في بيئة راهبات وأحببت الحياة الهادئة في أواخر السبعينات عندما كنت طفلة صغيرة تلعب بكل فرح في أزقة المنامة.

كنت صغيرة جدّاً، لكن أتذكر أنني شاهدتُّ نساء مسنات مثل أم باقي (المرأة القطيفية التي كانت ترتدي الرداء والمداس)، وأم وافد (المرأة العراقية التي كنت أساعدها على عبور الطريق إلى منزلها في الخميس). كانت لتلكما المرأتين منازل في المنامة في فريق المخارقة في أحد الأزقة الضيقة، وكانتا تأتيان إلى زيارة أم جعفر (طيبة العليوات)، وهي زوجة خال أمي وعم أبي عبدالنبي العريض. كانتا يمران عليها ويمشين بعض الخطوات إلى مأتم السادة كل ليلة.

عندما انتقلنا إلى منزلنا في مدينة عيسى، وكان يقع بالقرب منَّا مركز لتأهيل المسنين (دار عجزة) خلف بيتنا مباشرة، ولذلك كنت أشاهد الممرضات وهن يعتنين ويطعمن كبار السن. كان ذلك المشهد غريباً عليَّ لأنني كنت اعتقد أن وحدهم الأطفال هم من يُطعَم ويُرعى من قبل الكبار. منذ البداية كان لدي إحساس بالشفقة تجاه المسنين. لم أكن أفهم أو أتقبل طول العمر وكيفيته. لكن عندما رأيت أمي وهي تكبر في السن وتمرض تدريجيّاً أصبح الأمر أسهل بالنسبة إلي. كان ذلك لمجرد بضعة أشهر بالنسبة إلى أمي لكن ما حدث وضعني في مكان تلك الممرضات اللواتي كنَّ يعتنين بكبار السن.

كلنا نمر بالحلقة نفسها، وإنه أمر طبيعي أن نكبر ونرجع إلى مرحلة الطفولة مرة ثانية. أنا أتصور ما إذا كنت أنا الوحيدة التي تشعر بهذه الشفقة، لكن في اعتقادي، كثير من الناس يشعرون مثلي. إن الحياة ليست دائماً تلك المملوءة بالصحة والقوة، والإنسان لابد أن يضعف ويكبر مثل كل شيء في الوجود.

إنه من خلال العمل الدائب والدعم المستمر الذي يعطيه الإنسان للمجتمع، فإن هذا الشيء طبيعيّاً يضعفه، ولابد في النهاية أن يشيخ ويموت. وفي المقابل، فإن المجتمع لابد أن يُقدِّر هذه المساهمات، ويوفر له الدعم الجيد وخصوصا إذا وصل إلى مستوى ليس باستطاعته أن يقوم باحتياجاته الأساسية.

والمرأة كونها جزءاً من هذا المجتمع، كانت لمدة طويلة من الزمن مهملة، وهذا الشيء هو الأكثر في مجتمعاتنا العربية والمسلمة التي هي محافظة كثيرا في خطواتها. صحيح أننا نعيش في عالم ذكوري لكن المرأة أيضا تلعب دوراً كبيراً في بناء وتنمية المجتمع. وانه أكثر صحة أن تعيش المرأة أطول عمراً من الرجل، وأن الحمل والولادة يجعلان المرأة تفقد الكثير من صحتها، وهذا يؤدي إلى انهيار جسمها عندما تكبر في السن.

الكثير من الكتب تتكلم عن الرجال ومنجزاتهم، لكن القليل منا يؤرخ للنساء ودور المرأة في الحياة، وكذلك حياتهن الخاصة وأحاسيسهن التي دائما تكون مخبأة وراء الأبواب. لهذا فكرت في تأليف كتابي هذا وأخذت على نفسي أن يترجم الكتاب إلى العربية بواسطة منال العريض حيث كتبته بالانجليزية؛ لأني وجدت مواد كثيرة مشوقة قد تعجب الناس، وخصوصا الذين يتكلمون العربية، وإن الجيل الجديد من القراء يحتاج إلى التعرف على تراث مضمور.

لقد قمت بجولة ميدانية في البحرين، وقابلت أكثر من خمس عشرة امرأة مسنة كلهن من مواليد ما قبل 1932م، من عشر قرى بحرينية ومدينتين هما المنامة والمحرق، والقرى هي: كرزكان، عالي، داركليب، المالكية، بني جمرة، الدراز، الديه، سترة، الدير وعراد. وكذلك كتبت عن جداتي لأمي وأبي وعن عمتي، وذلك من خلال أبنائهن الذين سردوا لي أحداثاً حياتهمن، وخلال انشغالي بتأليف هذا الكتاب توفيت خمس أو ست من تلك النساء. كنت محظوظة؛ لأني انتهزت الفرصة للالتقاء معهن والتحدث إليهن، حيث إن كل واحدة منهن لديها تجربة خاصة تتحدث عنها.

أنا أعتقد أن أهم جزء في الكتاب، هو الفصل الأول الذي دونت فيه مقابلات شفهية مع النساء المسنات. كلمات أولئك النسوة في مضمونها تعطي الصورة التي أرغب في أن أسمعها. وعلى رغم كثرة ما اقرأ ستظل الشفاهية أصدق شيء يمكن أن نخرجه إلى المجتمع.

لقد اخترت نماذج من النساء من أعمار متقاربة ومن بيئات ومجتمعات متباينة؛ لكي ألقي الضوء على حياة المرأة في مختلف أدوارها الحياتية والمعيشية، وتلك الأمور التي تتعلق بشئون المرأة من الولادة حتى الممات وهو مسار الإنسان في فصل حياته الواحد الذي تتعدد فيه المشاهد والصور التي تؤلف حياة الكائن الحي والفوارق الاجتماعية من حيث العمل، الفقر والغنى، واكتساب المعرفة.

إن الفصول التالية تتكلم بالتفصيل عن حياة تلك النساء وكل واحدة بحد ذاتها تشرح العادات والتقاليد والطعام واحتفالات الزواج كذلك الملابس والطب والنذور والمناسبات الدينية والأدوار الأساسية التي أخذتها النساء في زمنهن من خلال تجربتهن الحياتية.

لقد اخترت هذه الفئة العمرية للنساء؛ لأنهن عشن حياة مخضرمة، ومازلن على قيد الحياة للحديث معهن عن تجربتهن. لقد عاشت أولئك النسوة خلال موسم الغوص الذي عاصرنه وشاهدن الطفرة النفطية والتغير الذي حصل في التراث والتقاليد الخليجية والبحرينية. كونهن نساء فقد شاهدن تغيرا ملحوظا مع بداية التعليم النظامي المعاصر والتغير الواضح في مجال العمل لدى المرأة في المجتمع.

ولما كانت القرية تتألف من مجتمع خاص، فكان لابد لي من وضع المقارنات في لهجات كل قرية على حدة من حيث قربها أو بعدها عن المدينة. درست المرأة كونها أمّاً وعائلة وحاجتها إلى العمل لمساعدة زوجها وعائلتها في المعيشة، وخصوصا إذا كانت أرملة يلزمها الخروج من المنزل للقيام بدور المسئولية للإنفاق على أولادها أو أسرتها.

وتطرقت في هذه الدراسة إلى الهوايات التي تمارسها المرأة في النشاط الاجتماعي، كالتعليم والقراءة في المناسبات الدينية في المجتمع الشيعي «المآتم». وهذا يعتبر عملاً و»دخلاً» إضافيّاً من المال لأولئك اللواتي يحبذن الخطابة الدينية في المجتمع الشيعي الذي هو مرتبط ارتباطاً وثيقاً بالوجدان والفكر والمعتقد عند الشيعة. صادفني في دراستي هذه خلال زياراتي لهذه القرى اختلاف اللهجات عند الحديث لبعض النساء الكبيرات في السن وهذه المجتمعات الصغيرة، وخصائص اللهجة البحرانية، ومن هذه الامثلة:

ثروة (فروة)، حدث (حدف) ثلاثة (فلافة).

وهناك العديد من الكلمات التي تختلف من قرية إلى أخرى، ثوم (فوم)، ثوب (فوب).

ومن الظواهر الصرفية في اللهجة البحرانية التميز القائم بين ضمير المتكلم المفرد (أنا) ونظيره المؤنث (أني) واستخدام أسماء الاشارة.

(هاك) و(هيكه) في لغة الحريم وخصوصا في قرية الدراز، وإن هذا اللفظ لا وجود له في المنامة. ومن عادات الرجل عندما يسأل عن زوجته لا يذكر اسمها إنما يقول وين «هيكه» أي تلك، المقصود هنا (زوجتي).

الكثير قد ينظر إلى النساء على أنهن مهملات ومحافظات إلى درجة معينة قبل النفط، وقد اثنين على جهد التعليم المعاصر والطفرة النفطية والتغير في تفكير الناس الذي ساهم بطريقة جبارة في ارتقاء النساء ليأخذن أدوارا مهمة في المجتمع. لكن هذا لم يكن فقط للنساء؛ لأن الرجال كذلك اخذوا دورهم في المجتمع.

أنا أوافق تماما مع ما حصلت عليه النساء من تحسن في المكانة الاجتماعية. لكن لابد أن أشير إلى أن النساء كذلك والمجتمع ككل خسر الكثير من القيم والمبادئ مع المجيء بالتقنيات الحديثة التي جعلت المجتمع يعتمد على الآلة إلى درجة أنه أصبح يشعر بأنه مجرد جماد، وقد خسر ذاته شيئا فشيئا.

إن قراءة هذا الكتاب سترجع لنا تلك الأيام للبحرين الهادئة عندما كانت الناس تمشي لفترات طويلة، والنساء في المناطق الريفية يُشاهدن بمشامرهن الملونة يمشين مع الماشية ويغسلن الأواني في العيون الطبيعية، عندما كان المسنون لا يحتاجون إلى كرسي متحرك ولا يدخلون في غيبوبة في المستشفيات لعشرات السنوات، عندما كانت الطبيعة تُحترم والله يُعبد، والناس ينامون عند الغروب ويصحون مع الفجر.

صحيفة الوسط البحرينية – العدد 4564 – السبت 07 مارس 2015م

[2]

المرأة قبل النفط… عائشة

رافقتني مرضية إلى بيت صديقة والدتها «عائشة» التي تقطن في حالة أبو ماهر في مدينة المحرق. كما أخبرتني عائشة بأن حي حالة أبو ماهر يعتبر من الأحياء القديمة في المحرق فلا توجد نخيل أو أي نوع من المزارع أنذاك، ولكن يحيطها البحر من كل الجهات، ومعظم سكانها كانوا يعملون في صيد السمك.

تتذكر عائشة طفولتها بوضوح عندما كانت تعيش في بيت العائلة الكبير الذي يقطن فيه جميع أفراد العائلة: الجد، الجدة، الأم، الأب والأعمام. وهي تتحدث عن جدتها شمة التي كانت تعطيها يومياً بيزة واحدة (وهي وحدة من الروبية الهندية التي تساوي 64 بيزة والروبية تعادل 100 فلس)، تخرجها بفك عقدة في ملفعها (وهو قطعة قماش سوداء اللون تلف كحجاب لتغطية الشعر) الذي كانت ترتديه على رأسها، فتذهب عائشة إلى دكان عبد الرحمن لشراء الفول (الباقلاء) والحمص الساخن (النخج). كانت طفولتها سعيدة بالرغم من كون والدها فقير لحد ما. كانوا يطبخون ما يعادل ثلاثة عشر «جيلة» (كيلة) من الرز وعشر ربعات من السمك الطازج الذي يتم اصطيادهُ من البحر، وتقوم اثنتان من زوجات الأولاد بتحضير وجبة الغداء لجميع أفراد العائلة.

كان والدها يعمل غواصاً لصيد اللؤلؤ وهو يمتلك قاربه الخاص و كان يسمى نوخذة أيضاً (النوخذة هو ربان السفينة وصاحب الأمر والنهي فيها وهو الحاكم والقاضي إذا تطلب الأمر الفصل بين متخاصمين، وقد يكون النوخذة هو صاحب السفينة التي يقودها أو يكون مستأجراً لها أو يعمل عليها لحساب الغير). أما والدتها فكانت ترتدي الثوب (الوايل) وهي تذهب كل يوم صباحاً ومساءً لجلب الماء من عيون الماء المجاورة، حيث توجد عينان في «أبوماهر» هما «عين الهام» و»عين أبوخميس». أما الجيران فهم بيت عيد ومريم بنت خميس. كانوا يعيشون في بيت يطلق عليه «كبر» مبني من الحجر البحري من جهاته الأربع وسقفه جملون من سعف النخيل وأعمدته من جذوع الشجر، ليس به حمامات وعند الحاجة يذهب السكان إلى البحر حيث يوجد مكان معد كحمامات جماعية تتجمع مجموعة من الفتيات ويذهبن معاً عند الحاجة. وهناك جسر صغير مبني على البحر معد للوصول إلى الحمامات. أما تلك التي توجد في البيوت فتسمى «قطيعة» (حمام للاستحمام).

لم تذهب عائشة إلى المدرسة أو المعلم (لتحفيظ القراّن) والمعلمين في ذلك الوقت كانوا: المعلم (درويش) الذي كان يدرس البنات والأولاد، والمطوع (عيد)، والمعلمة عائشة (أم الشيخ راشد) التي كانت تدرس البنات فقط. تتذكر عائشة أول مدرسة للبنات التي أسست في عام 1928 في مدينة المحرق وهي «مدرسة خديجة الكبرى». وقد كانت تلقبها بمدرسة «المنجروف» (المنجروف حصر تجلب من العراق مصنوعة من أعواد الأسل تنبت في الأهوار في شط العرب) لأن سقفها كان مصنوع من الجندل أو جذوع شجرة المنجروف.

من الحوادث التي تتذكرها عائشة في أيام طفولتها هو يوم العيد عندما مشطت أمها شعرها ووضعت المشموم فيه وألبستها البخنق، ومن ثم طلبت منها بأن تذهب وتسلم على جدتها وجدها وأن تقبلهما، وعندما قبلت جدها أحس بوجود المشموم في ضفائرها فطلب منها أن تزيله من شعرها ولا تضعه مرة أخرى. مازالت عائشة تشعر بأن جدها قد تصرف بطريقة غريبة ولم تكن تعرف السبب الذي دفع الجد للتصرف هذا مع بنت صغيرة. سألت والدها نفس السؤال فأجاب «أن بعض الناس لديهم أدمغة صغيرة و يعتقدون بمجرد أنهم ذكور أن باستطاعتهم التحكم بالإناث».

وتتذكر عائشة ضاحكة، بأنه لم يسكن غير البحرينيين في منطقتهم، ولا تواجد لأي أجنبي يعمل في الحالة في تلك الأيام. قالت بأنها تتذكر أول امرأة هندية سكنت في المحرق. فقد كان حدثاً غريباً وكانت هي وصديقاتها يرغبن في رؤيتها كل يوم. اتفقت مع صديقاتها بأن يستقيظن مبكراً كل صباح قبل أن تذهب المرأة الهندية إلى عملها. كن يجلسن مقابل بيتها وينتظرن بكل شوق اللحظة التي تخرج منها المرأة مع زوجها. فتنتابهن الدهشة عندما تخرج وهي مزينة، فيتفرجن على الساري الذي كانت ترتديه وشعرها المصفف ووجهها الجميل. ثم يقمن بالمشي وراءها إلى درجة أن المرأة تخاف منهن في بعض الأحيان.

كان والد عائشة يجلب لها ولأخواتها عظام العصافير الميتة وهم بدورهم يصنعون منها لعب أطفال باستخدام قطع من الجريد والقماش الزائد في أشكال متنوعة كالحمير والدمى كي يلعبون بها. كان والدها يدخن السيجارة التي تصنع من التتن المحشاة في أوراق خاصة يطلق عليها (بافرة).

عملت عائشة قبل أن تتزوج بالتطريز مع والدتها التي كانت تبيعه حسب الطلبات. كن يشترين الخيوط المتنوعة من «سوق القيصرية» لاستخدامه في التطريز لكثير من الملابس وأغطية المساند والدواشق (دوشق: كلمة فارسية الأصل. «دوشاك» أي الفراش المزدوج)، وأغطية الرأس للرجال (الطاقية: يطلق عليها محلياً القحفية – غطاء للرأس). و كانت أيضاً تصنع الخيوط بنفسها في المنزل. وكانت هذه المهنة المشهورة في المحرق تسمى «الكورار» واستجدت مؤخراً بافتتاح مركز لنساء المحرق لتعليم المهتمين بهذه الصنعة.

تزوجت في السابعة عشرة من عمرها من علي بن أحمد الذي كان يعمل في البدايات كلحام في بابكو وبعدها عمل في الحرس الوطني. وكانت زوجة عم عائشة متزوجة من أخ علي. وكما أشارت عائشة «لقد رأيته أول مرة في ليلة الدخلة والحمد لله أنه رجل جيد». كان مهرها ألف وست ربيات وكما أعتقد إنه أعلى رقم سمعته من كل الذين قابلتهم. أخبرتني عائشة وهي تعقب على المهر «مازال يذكرني بأنه دفع لي ألف وست روبيات». وأنا كذلك أتساءل لماذا لا ينسى الرجال المهر الذي دفعوه لزوجاتهم. اشترى لها زوجها ثياباً مصنوعة من أقمشة مختلفة. القماش كان شيت،دباية، مخروزة، بزلت، دهلامية، صبغ روحة، ورد الحجاز والمخمل.

ارتدت عائشة البخنق منذ طفولتها حتى زواجها. تتذكر عائشة بأنها لبست أول موديل للعباءات التي كان يخيطها الأحسائيون (نسبة إلى محافظة الأحساء «شرق السعودية») وهم بيت الحاكور وبيت حسن ضيف. وقالت إن عباءتها كانت من الحرير ومطرزة بالخيوط الذهبية «الزري» (خيوط الذهب).

تتذكر عائشة أم جان، القابلة اليهودية المشهورة التي ولدتها في أكثر من ولادة. أم جان التي ذكرتها نانسي خضوري في كتابها «يهود البحرين» جاءت إلى البحرين في عام 1937 وقامت بتوليد عدد كبير من النساء وآخر ولادة قامت بها في سنة 1985. لدى عائشة أربع بنات وستة أولاد وحالياً تسكن مع زوجها واثنتين من بناتها في بيتها الكائن في المحرق.

من وجهة نظرها، ترى بأن الناس في الأيام الفائتة كانوا أحسن خلقاً من وقتنا الحاضر. في الماضي كما تتذكر كانت النساء المتجاورات أكثر تعاوناً وأُلفة، فكن يجتمعن حول آلة الرحى ويجلبن حب الحنطة لطحنه. فكن يبدأن من شهر رجب، شهرين قبل شهر رمضان المبارك. وعند حلول الشهر الكريم يكنَّ قد جهزن الطحين وحب الهريس والجريش. كما أنها تتذكر جيداً الرحلات التي كن يستقلن الباصات لها مع الصديقات إلى جزيرة النبيه صالح وسترة. وتتذكر أيضاً أغاني النساء عندما يذهب الرجال إلى صيد اللؤلؤ والأغنية الشهيرة «توب توب يا بحر».

في اعتقادي المحرق تحتوي على ثقافات مختلفة تختلف عن مدينة المنامة وأجزاء أخرى من البحرين. السكان هنا خليط من القبائل العربية السنية، والأحسائيين والعجم (الإيرانيون الشيعة) والهولة، والبحارنة (الشيعة) الذين كانوا يقطنون عراد وسماهيج والدير. القبائل العربية السنية تعيش في المحرق والحد وقلالي أما عراد فهي خليط من كل هؤلاء.

صحيفة الوسط البحرينية – العدد 4571 – السبت 14 مارس 2015م

[3]

حسينية الماحوزي

تاريخ الميلاد: 1905م – 1942م

المكان: بلاد القديم

سرد: عبدالكريم علي العريض (ابنها)

هذا ما سرده لي والدي عبدالكريم العريض عن والدته حسينية.

تحدثت محفوظة نقلاً عن أمها حسينية أن جدتها علوية شج رأسها في حادث أليم حيث ضربها على رأسها أحد الأشرار. كان جدها السيد علي بن السيد إسحاق يعيش مع أسرته في بلاد القديم وقد خرج الجميع من المنزل إلى البساتين البعيدة، إذ كانت منطقة الخميس وما جاورها من المناطق الخطرة في تلك الفترة، حيث فُقد فيها شيخ البحرين الشيخ علي بن خليفة (كتاب «تاريخ الجزيرة العربية»، البهائي ص 187). بقيت الطفلة وحدها في المنزل تلعب في البهو ومن ثم دخل بعض الرجال الغرباء إلى المنزل بقصد السرقة إلا أنهم لم يجدوا ما يسرقونه، فذهب أحدهم ليشرب الماء فرأى الطفلة تلعب وحدها وما كان منه إلا وأن ألقى القدح على رأسها من دون أن يلتفت إلى ما فعله في الطفلة التي انطرحت على الأرض والدماء تسيل من رأسها. وعند خروجه من الدهليز كان هناك حمار مربوط من رجله في زربه في الجدار، فكر الرجل في أخذ الحمار وجلس القرفصاء وأخذ يفك قيد الحمار، وما أن فك قيد الحمار حتى «نطله» في بطنه وخرج من الباب وهو يصرخ وسقط بالقرب من عين قصاري. انتشر الخبر وأصبحت القصة مشهورة في القرية باسم حوبة العلوية علوية (الحوبة أو الكارما السيئة هي ردة فعل لعمل شيء). أخذ أهالي القرية ينذرون لها بعد أن شافاها الله والقدرة الإلهية هي التي أنقذتها من الموت، وقعت تلك الحادثة في يوم موت الشيخ على بن خليفة حاكم البحرين نفسه.

عندما خسر والدي ما يملك من رأس مال في تجارة اللؤلؤ، أعطته أمي ما لديها من مصوغات ذهبية مما تملكه من ميراث من أمها وهو في حدود الكيلوجرام من الذهب لكي يصلح وضعه في السوق. غير أن الأزمة العالمية وكساد سوق اللؤلؤ لم تسانده في ذلك وصرف المال في أغراض احتياجات الأسرة إلى أن توفى في العام 1942م.

قالت محفوظة:

لقد رأيت جدتي علوية عندما أتت لزيارة ابنتها حسينية في منزلنا في المنامة سنة 1938م. كانت جميلة جداً ولها شعر ذهبي وبشره بيضاء نضرة وطول معتدل وقوام رشيق. كانت زيارتها لنا في بيتنا في المنامة قصيرة جداً. أتت عصراً في سيارة أجرة وكانت تنتظرها على باب البيت لتأخذها إلى بلاد القديم فيما بعد. كانت السيارة من صنع شركة فورد موديل 1928م، على ما تتذكر أختي محفوظة، فقد خرجت من المنزل لكي أركب السيارة معها وأمسكت بثيابها وبكيت ولكن أختي أمسكت بي وأدخلتني المنزل وأغلقت الباب بإحكام. توفيت علوية عن عمر ناهز67 سنة وكان ذلك في العام 1939م.

كان لدى جدتي علوية ابنتان وولدان هما حسينية وهاشمية، وأما الولدان فهما ناصر وعيسي. في البداية تزوج أبي من هاشمية، ولكنها توفيت بعد تسعة أشهر من الزواج. وبعد ذلك بفترة تزوج من أختها حسينيه، والدتي، فأنجبت بنتين وثلاثة أولاد وهم طيبة، محفوظة، وكريم، وصالح وطاهر.

تزوجت حسينية في سن السابعة عشرة. أهدتها والدتها في ليلة زواجها طاقية توضع على الرأس بها وريقات من الذهب عددها اثنا عشرة ورقة، وهذه الوريقات عادة تهدى أيام النيروز إلى موظفي الدولة الكبار في الدولة الصفوية، مع مجموعة من المصوغات القديمة مثل الأساور وقلادة وبعض الخواتم. هذه المجموعة كانت ميراث من والدتها كما قيل لي، والمصنوعة في القرن السابع عشر، وبعضها جُلب من إيران.

تمتلك عائلة آل إسحاق أراضي زراعية كثيرة وحدائق. وقد تم بيع أرض بمبلغ كبير جداً في قرية الصالحية الواقعة بالقرب من مقبرة أبوعنبرة، وهي مليئة بأنواع مختلفة من الفواكه والخضروات ومختلف أصناف النخيل، وتسقى مباشرةً من عين قصاري الصغيرة (عين الدوبية). قرر سيدعلي بن سيدإسحاق وهب الأرض إلى مسجد السدرة الواقع في بلاد القديم، وكذلك عدد من قطع الأراضي المليئة بالنخيل والحدائق للتمويل والمساعدة في تدريس العلوم الدينية. هذا الوقف مسجل ومحفوظ بالحفر على أحد حيطان المسجد. كانت والدتي الزوجة الثانية لأبي علي العريض فقد كان متزوجاً من خديجة بنت أحمد بن رضي قبل 25 عاماً. وله من الأبناء مدينة، ومريم، وعبدالعزيز (الذي توفي في حادث سباق الخيل بالقرب من قلعة الديوان في زفة حسن بن عبدالرسول بن رجب) قبل ست سنوات من ولادتي، وذلك في العام 1928م. كانت حياة والدتي مع والدي حياة مرفهة على رغم وجود زوجه ثانية تعيش في المنزل نفسه. كان بيت العائلة كبيراً ويقع في فريق الحطب عند مدخل سوق المنامة من الجهة الشرقية، وهو عبارة عن طابقين، جدرانه من الحجر البحري والطين الأبيض والجبس العربي، وبه بئران وحمام في الزاوية الجنوبية. يتخلله شارع الشيخ عبدالله الذي يفصله عن بيوت الجيران. أما سقفه فكان مغطى بسعف وجذوع النخيل، وفي الجهة الشرقية يوجد مكان مسقوف يستخدم للنوم صيفاً. سقفه مصنوع من الحجر ويوجد به حمام ومغطى على شكل الجمل (جملون). لقد ورث أبي هذا البيت من والده محمد حسين العريض الذي كان معروفاً في السوق بتجارة اللؤلؤ، وهو أحد التجار المرموقين في القرن التاسع عشر.

تزوج محمد حسين ابنة عمه مدينة، حيث رزقت بولد أسمته علي هو ابنها الوحيد ولذلك كان يطلق عليه (علي مدينة). بعدها تزوج من امرأة من عائلة أبوديب ورزق منها كلاً من عبدالله وحسناء. أما زوجته الثالثة فهي خديجة بنت شيخ نصر العصفور وأنجبت له محسن، وعبدالنبي، ومنصور، ورضي، ومريم، وشيخة.

كان لدى والدتي مطحنة مصنوعة من الحجر تطحن بواسطتها النبق (السدر) الذي يجلبه لها والدي من مزرعة بلاد القديم، وكذلك أوراق الحناء التي كانت تجففها وتطحنها وتبيعها للنساء. كان لديها بقرة سوداء اللون. في يوم من الأيام ذهب أخي صالح إلى البقرة فنطحته في وجهه وبدأ ينزف. فقرر والدي أن يبعث البقرة إلى بلاد القديم إلى منزل خالي السيد ناصر الماحوزي. كانت هذه البقرة مصدراً للدخل بالنسبة إلى والدتي فقد كانت تبيع حليبها إلى الجيران. لذلك أصبحت حزينة لخسارة ذلك المدخول الذي كانت تنفقه على أولادها. تدهور الاقتصاد بالنسبة لوالدي وخسر والدي الكثير من رأس ماله نتيجة الانخفاض الذي أدى إلى سقوط سوق اللؤلؤ. كانت الخسارة في حدود الـ 30,000 روبيه، وذلك خلال الحرب العالمية الثانية (1939-1945). ذكر ذلك الشملان في كتابه «تجار اللؤلؤ في الخليج»، ما أضاف إلى حزنها أن والدي باع كل ما كانت تمتلكه من ذهب ومجوهرات. شكلت تجارة اللؤلؤ أكبر خسارة لوالدي وكانت الخسارة تتلو الأخرى. بدأ ببيع ما يمتلك من عقارات، فكانت دالية الماحوز هي البداية، حيث بيعت على أخيه منصور العريض بمبلغ بخس. وكان كلما يبيع عقاراً يصرفه من دون أن يفكر في الادخار والاستثمار. ولديه مثال اعتقده ساذجاً يقول فيه: «اصرف ما في الجيب يأتيك ما في الغيب». أخبار الحرب العالمية كانت تسيطر على تفاصيل الحياة، وعلى تخزين المؤونة في المنازل. بدأت المواد الغذائية في الانحسار شيئاً فشيئاً من الأسواق مثل السكر، والرز، والدقيق، والقمح والزيت. خزن أبي ما يكفي من المؤونة في المنزل تكفي لشهرين. أغلق الخباز مخبزه لعدم وجود الدقيق وكان قد استأجر دكانه من أبي فتوقف الخبز والدخل في آن واحد. كانت أياماً صعبة علينا. وكانت صورة جورج الخامس وبناته إليزابيث ومارجريت ملصقة على أحد جدران غرفة النوم. كانت غرفة النوم تحوي فانوساً موضوعاً على طاولة صغيرة، وسريراً مصنوعاً من خشب الأبنوس الهندي وصندوقاً منقوشاً بثلاثة رفوف من الأسفل. كان في الغرفة مخزن وبه أرفف لتخزين الحاجيات وكنت دائماً أتسلق إلى الأرفف لكي ألعب هناك. وعلى الجانب الآخر يوجد حمام وبه سخان ماء (سماورد) لتسخين الماء في فصل الشتاء للاستحمام. وأما الأرض فكانت مغطاة بحصير القش المصنوع من الأسل والتي تنبت على ساحل سترة. كذلك توجد سلة مطرزة معلقة على الجدار. يوجد في الغرفة ثلاثة رفوف مبنية في الجدار تسمي روزنة (وهي فتحات داخل الجدران تعامل على أنها رفوف لوضع حاجيات البيت عليها) وضع فوقها الخزف الصيني والأواني النحاسية والتي كانت تستخدم للضيافة، وبندقية قديمة بست طلقات ومجموعة من الكتب.

صحيفة الوسط البحرينية – العدد 4578 – السبت 21 مارس 2015م

[4]

حسينية الماحوزي (2)

تاريخ الميلاد: 1905م – 1943م

المكان: بلاد القديم

سرد: عبدالكريم علي العريض (ابنها)

كانت الحياة بسيطة في تلك الأيام، وكان الناس يحتفلون بالمناسبات مثل الأعياد ومولد النبي وأهل بيته بابتهاج وفرح وتحتفل العائلات الإيرانية بعيد النيروز. وفي نهاية شهر صفر يشعل الناس حريقاً في معظم حواري المنامة حيث ترمى في تلك الحريق كل الأغراض القديمة ويبدأ الأطفال في اللعب حولها والغناء «طلع صفر يا نبي الله» (هذا العيد هو من بقايا المواسم الزردشتية ويقال إن النار التي تشتعل ويقفز عليها معناها أن الناس يدعونها بأن تأخذ صفرة وجوههم وتعطيهم اللون الأحمر).

انهيار سوق اللؤلؤ أدى إلى خلل في الاقتصاد وكثير من الناس بدأ في إيجاد طرق جديدة لطلب الرزق. وخصوصاً لهؤلاء الذين لم يحصلوا على فرصة الانتقال من الماضي الرتيب والمعتدل إلى القفزة الحديثة والتي أتت مفاجئة للجميع. غيرت تلك الوثبة العادات والتقاليد القديمة وأتت بمفاهيم جديدة لم تكن معهودة من قبل. كانت مشاعل الغاز تحترق في جنوب البحرين في عام 1941م وأغارت الطائرات الإيطالية وألقت عليها القنابل أثناء الحرب العالمية الثانية، كان هذا كلام الناس في ذلك الوقت، كنا نسمعه ونحن أطفال.

في العام 1941م بدأت حالة والدي الصحية تتدهور وجلس في المنزل فترة من الزمن. ومن ثم أُخذ إلى مستشفي الإرسالية الأميركية وكانت أختي مدينة تأخذني معها لرؤيته. لم يبقَ كثيراً في المستشفى حيث إنه انتقل إلى رحمة الله نهاية الخريف.

عشنا في المنزل مع والدتي خلال فصل الشتاء وكنا معتمدين في معيشتنا على عمي منصور العريض. ذهبت أنا إلى منزل سالم العريض ابن عمة والدي. كانت أختي محفوظة طالبة في مدرسة الإرسالية الأميركية. وقد كانت والدتي تطمح لها أن تحصل على تعليم جيد لأنها رأت فيها حب التعلم وأن تصبح معلمة في المستقبل.

توعكت صحة والدتي في بداية فصل الصيف وازداد عليها المرض وظلت طريحة الفراش مع مرور الأيام. اُستدعي لها دكتور هندي الجنسية من المنطقة لفحصها. قال الدكتور إنها تُحتضر. في اليوم الثاني تجمعت النسوة حولها بينما كانت تأخذ أنفاسها الأخيرة ومن ضمن النسوة كانت هناك «سكينة بنت الشيخ» زوجة محمد العريض كانت تعمل لها خلطة لغسل الفم ولكنها تنهدت «لقد توفيت» وضعت الغطاء على وجهها وباقي بدنها.

كنت ألاحظ المشهد من باب الغرفة. أتى بعض الرجال مع حمالة لأخذها وتجهيزها للدفن وهم جاسم وجمعة العريض. بينما هم في طريقهم لأخذها صرخت ُسكينة «لقد رجعت للحياة. فتحت عيناها من غير أن تقول شيئاً» هي رسالة تريد أن تقولها بأنها لا تريد أن تموت في هذه الغرفة وأن تدفن بعيداً عن أهلها وقريتها التي أتت منها وسوف تدفن فيها. قالت «احتاج أن أذهب إلى ذلك المنزل الذي قدمت منه أول مرة ومن هناك تبدأ رحلتي من الأرض التي تنام فيها والدتي ووالدي، من مقبرة أبو عنبرة في بلاد القديم». كانت أمنيتها أن تدفن في بلاد القديم مع عائلتها على تلك الأرض المقدسة بالنسبة لها.

في عصر يوم من أيام الخريف في العام 1942م رجعت للمنزل بعد أن أكملت اللعب مع الأولاد في الخارج وكان عمري آنذاك ثماني سنوات. رأيت والدتي نائمة على سجادة بالقرب من باب الغرفة، لم يكن أحد معها، أخواتي قد ذهبن إلى بيت عمي محسن وكان ذلك قبل الغروب. جلست بالقرب من رأسها وكانت عندي لوزة في يدي أعطيتها اللوزة وقلت لها جربيها إنها لذيذة. رفضت وقالت لي «شكراً ولدي، ليس عندي أي شهية للأكل». وبعد ذلك أخذت يدي وأخذت تتحسسها ثم وضعتها فوق صدرها وهي تتنهد «ابني هنا (تعني صدرها) مدون به الحلو والمر»، وبعد ذلك قالت «ولدي. اهتم بإخوانك وأخواتك». كلماتها أدمعت عيني، ثم قالت «ابني لاتبكي، نحن بشر ليس لدينا أي شيء فالله يعطي ويأخذ».

قصص مختلفة تدور في مخيلتي ثم بدأت أجمع الأحداث عن والدتي وهي تذهب بي في منتصف الليل إلى الحمام وتنتظرني في الخارج في ذلك البرد القارص ومنظرها وهي تأخذني إلي المدرسة مشياً على الأقدام وعندما أُصُاب بألم في رأسي أصرخ «والدتي اربطي رأسي» فتربطه لي وتبدأ في قراءة سور من القراّن حتى أهدأ وأنام.

كانت المناظر تمر علي بين الحين والأخر وكأنها شريط سينمائي. كانت حازمة في تربيتنا، لديها مبادئ وأخلاق تصر علي تعليمها لأولادها، مراسم خاصة ورثتها من أهلها. حاولت جاهدة لتعليم أبنائها مبادئ الصدق والأمانة وهي ضد فكرة خلط الأبناء مع الأولاد سيّئي التصرف حتى لا يصبح أبناؤها سيّئي التصرف مثلهم. تعتبر نفسها من سلالة دينية عريقة في البحرين حيث إن جدها الشيخ حسين الماحوزي واحد من مدرسة العلماء (المجتهدين) الأصوليين في المجتمع البحراني، وجدها الشيخ عبدالله بن ماجد البلادي هو شيخ الإسلام في نهاية العهد الصفوي، وابنه شيخ محمد بن عبدالله بن ماجد مساعد الحاكم في سنة 1705م.

نستنتج من ذلك بأنه لابد لأبنائنا من النظر لتلك الشخصيات البارزة. هذه العائلة تمتلك الكثير من الأراضي الزراعية في كثير من القرى البحرينية من القرن السادس عشر وواحدة منهم هي بيوتهم الموجودة في بلاد القديم والتي تعتبر من أكبر البيوت هناك حيث تحتوي عدداً من الحمامات التي يجري بها الماء من عين قصاري ثم يجري في مجاري حول البيت، فهي على شكل الدلتا تغذي ثلاث مناطق هي قرية الصالحية وقرية الزنج والجهة الشرقية من مسجد السدرة.

سألت أختي محفوظة عن الأوراق الذهبية الموجودة على غطاء الرأس الذي عند والدتي، قالت لي هذه الأوراق قديمة، هي ميراث الأم إلى ابنتها عبر السنين، وعددها اثنتا عشرة ومصنوعة من الذهب الخالص. وهي هدية من سلطان إيران إلى مسئول حكومي للمنطقة الصفوية في يوم النيروز وكذلك إلى شيخ الإسلام. حصلت والدتي على هذه الأوراق الذهبية من والدتها في يوم زواجها وهم من شيخ الإسلام آنذاك، الشيخ عبدالله البلادي، واحد من أجداد والدتي. وكان الأخر يحصل على هدايا من إيران في عيد النيروز في تلك الأيام في العصر الصفوي.

لقد زرت والدتي بعد شهر واحد من انتقالها إلى بلاد القديم إلى بيت جدي سيد حسن الماحوزي. كانت جالسة علي سجادة وبدأت تسألني عن أخواتي وخصوصاً طيبة التي كانت على وشك أن يعقد قرانها على ابن عمها محمد حسن منصور العريض وإذا كانت محفوظة مازالت تذهب إلى المدرسة أم لا، وعن إخواني صالح وطاهر.

مع نهاية الخريف في العام 1943م، توفيت والدتي، وأُخذت إلى مقبرة أبو عنبرة (بالقرب من مسجد الخميس)، حيث دفنت هناك بجانب والدتها. وقد حققت حلمها ودفنت قرب من تحب من أفراد أسرتها.

صحيفة الوسط البحرينية – العدد 4585 – السبت 28 مارس 2015م

 

[5]

زهرة حسن علي العصفور

زهرة حسن علي العصفور

قرية ستره، سفاله

تاريخ الميلاد: 1927

تاريخ المقابلة: 2 ديسمبر 2012

شهادة: رحاب حبيل (نسيبة) وسيد هادي (حفيد)

تعتبر سترة واحدة من أكبر الجزر في البحرين والتي يتجاوز عدد سكانها 80,000 نسمة. وتضم ست قرى هي مهزه، سفاله، واديان، القرية، الخارجية ومركوبان. لم يعد ينطبق على ستره وصف جزيرة كما كان منذ قرون وذلك بعد بناء جسر بينها وبين العاصمة المنامة في الجانب الجنوبي وجسر آخر يربطها بالقرى على الجانب الغربي من معامير، نويدرات وعسكر والذي بنته شركة نفط البحرين في العام 1938 بعد اكتشاف النفط في العام 1932. ولهذا كان من الصعب جدا بالنسبة لي أن اجد امرأة تنعم بصحة جيدة ولدت قبل اكتشاف النفط. وسترة تلك الجزيرة الجميلة بوفرة ينابيعها الطبيعية وبساتينها تحولت إلى منطقة صناعية مما جعلها منطقة ملوثة ولديها اكبر معدل وفيات في البلاد.

محدثتي امرأة مسنة من سترة كانت في يوم من الأيام امرأة مفعمة بالحيوية والنشاط ولكن كما كانت تقول وتردد المثل المعروف «كثر الدق يفك اللحام» أو بعبارة أخرى، «كثر الطرق يفتح اللحام» وكان ذلك وصفاً دقيقا لحياتها. فعلا، فبغض النظر عن مقدار الطاقة التي يهبنا إياها الله عز وجل، تبقى محدودة. فالإنسان يعتبر ضعيف وبالخصوص عندما يرهق نفسه. لم تكن زهرة أكبر من النساء الأخريات اللواتي قابلتهن لهذا البحث ومع ذلك، فقد أجهدت كل طاقاتها. ربما سنحت لي الفرصة لاجتمع بها واكتب عنها لكي أعطي لنفسي وقرائي العديد من الدروس في الحياة. يجب علينا أن نحاول الاستفادة من الطاقات الايجابية في حياتنا بدلا من إنهاكها. البعض منا متأمل جيد والبعض الآخر غير ذلك. وزهرة لم تكن من أولئك المتأملين الجيدين ولكن لديها قصة جديرة بالاهتمام والكتابة.

كنت برفقة رحاب حبيل التي كانت لطيفة ومسلية جداً، أخذتني إلى جزيرة سترة لمقابلة ابنة عم والدها. ذهبنا إلى فيلا بنيت حديثا في قرية سفالة ووجدت هناك امرأة عجوز ترقد على فراش منخفض في القاعة.

لمدة نصف ساعة أو نحو ذلك، اعتقدت أن المقابلة لن تكون ناجحة حيث كان من الواضح جدا أن زهرة لم تكن مريضة جسديا فقط ولكن كانت أيضا تعاني من الاكتئاب. لم تكن مستعدة لإجراء أي حديث فقد تلاشت نصف ذكرياتها. حاولت رحاب قصارى جهدها لجعل زهرة تتحدث وبمساعدة حفيدها سيدهادي الذي انضم إلينا في تلك اللحظات مع ابنها سيدعدنان وزوجته في وقت لاحق، استطعت ان التقط بعض الجوانب لحياة زهرة.

كان حسن العصفور والد زهرة صياد سمك. والدتها فاطمة عباس من أهل النويدرات. كانت طفولتها جيدة نسبيا وهي الوسطى بين أخواتها. لم يكن لديها أشقاء. أخواتها هن مريم، وزينب، وأمينة. توفين جميعهن وكانت هي الوحيدة على قيد الحياة. تذكرت والدها بالخير. توفيت والدتها عندما كانت صغيرة وتكفلت بتربيتها عمتها (شقيقة الأب). أما زوجة والدها فهي خديجة البصري من قرية القرية. لديها أخوان من زوجة والدها الثانية.

تمكنت زهرة من الذهاب إلى المعلم وبالتالي تعلمت قراءة القرآن والقصيد (قراءة الشعر على أهل بيت الرسول). وكان هذا بمثابة حجر الأساس الذي خطته لمستقبل زاهر في حياتها لاحقا. عاشت في بيت بحريني نموذجي مشيد من الجبس وصخور البحر. كان لديهم بئر ليزودهم بالماء للغسل والطهي. كن يذهبن إلى العين كل يوم لغسل الملابس في تلك الفترة بمادة بيضاء تسمى طبل (طين ابيض يستخرج من البحر) يتم الحصول عليها من الأرض. لم تكن كل المنازل مزودة بالمراحيض لذا كان من الطبيعي جدا الاختباء وراء شجرة أو الذهاب إلى البحر لقضاء الحاجة. فهذه الممارسات تعكس التخلف الآن، وقد ترهب الناس وكانت الحياة هكذا في الخمسين عاما المنصرمة فكانت الطبيعة في مكانها. واستحوذت المواد الكيمائية، المصانع، المصافي، ومراكز التسوق على المساحات الخضراء وينابيع المياه.

ذكرت لي زهرة أسماء بعض البساتين وينابيع المياه الطبيعية التي اعتادت الذهاب إليها في شبابها ولم يبق شيء منهم الآن، مثل «بادية صباح»، «بادية جاسم»، «عين مهزة» ومكان معروف في سترة يعرف باسم «البسيتين» مماثل لاسم منطقة في المحرق. ويمكن أن نلاحظ في هذا السياق أن «عين المهزه» من الينابيع الطبيعية المشهورة جدا والتي تستخدم لري عدد من البساتين في حين تمر مياهها من مهزة الى مركوبان وسفالة والتي تتدفق في قنوات واسعة وعميقة وكبيرة إلى الشرق حيث بركة صغيرة تسبح فيها النساء. أخبرتني زهرة أن سفالة مشهورة بمنتجعاتها الصيفية حيث تغادر هي وعائلتها منزلهم أيام الصيف الحار ويذهبون إلى البساتين وينابيع المياه الطبيعية ويبنون أكواخا لأنفسهم (برستجات). تقع مزارع سفالة في الجانب الشرقي بالقرب من شاطئ البحر. وتشتهر ستره أيضا بنخيل الرطب، الفواكه والخضروات حيث «بستان الحوري»، «بستان السبان»، بالاضافه إلى مزارع «أبو العيش» الممتلئة بأشجار الفاكهة الكبيرة مثل الرمان، اللوز، البمبر، البطيخ، الباميه، الباذنجان والطماطم بالإضافة إلى البرسيم (علف الحيوانات).

تزوجت في سن العاشرة وعلى الرغم من فقدانها نصف ذاكرتها إلا أنها من مناصري الزواج المبكر للفتيات. تعيد مراراً وتكرار أن الفتيات في هذه الأيام يتزوجن عندما يكبرن، في سن الثلاثين. والذي بدا لها شيء فظيع جدا. حسنا، ربما لم تتعود المجتمعات في جميع أنحاء العالم على الزواج في سن متأخر ولكن التكنولوجيا والتحديث غيرت مواقف الشعوب وتطلعاتها وعلى مدى خمسين عاما يبدو أن العالم بأسره تحول تحولا مثيرا في الثقافة. بدت زهرة قلقة وهي شهدت بنفسها هذا التحول لكن خلافا لمعظمنا فهي شخصية مخضرمة عاشت القديم والجديد على حد سواء.

كان زوجها يكبرها بسبع أو ثماني سنوات وكان صيادا مثل والدها وابن عمها، اسمه سيدكاظم سيدسلمان. لا تتذكر ما إذا كانت قد أعطيت أي مهر أو كيف كان زفافها. ومع ذلك، فهي تعترف بأنها وزوجها تقاسما قصة حب. وبغض النظر عما إذا كان الرجل يحب زوجته أم لا، إنها تقاليد الرجال الكبار في السن أن يتزوجوا أكثر من زوجة واحدة. تزوج زوجها بامرأة أخرى في وقت لاحق من حياته اسمها فاطمة عبدالنبي العبو. كانت تعيش معها في نفس المنزل ولم يكن بينهم أي خلاف على الإطلاق. عندما سألتها رحاب «هل حصل وان غضبت لزواج زوجك؟» فأجابت: «لماذا أشعر بالغضب؟ هذا حقه طالما يعاملنا بالمثل». كانت رحاب مندهشة مقارنة بالمرأة في هذه الأيام عندما تكتشف أن زوجها سوف يتزوج من أخرى فتغضب بشدة إزاء هذا الوضع على عكس تلك السيدات الحكيمات والمسالمات في ذلك العصر.

انجبت زهرة ابنتها الأولى معصومة ثم بدأت تنجب العديد من الأطفال الذين ماتوا بسبب تردي الرعاية الصحية. وبعد مرور أكثر من اثني عشر عاما ونحو ذلك أنجبت سيدعدنان وسيدمحمد.

أما الزوجة الثانية فقد أنجبت ثلاث بنات هن فاطمة، شريفة وهشمه. توفي زوجها عندما كان عمر سيد عدنان ثلاث سنوات فقط.

من هنا، أخذت زهرة المبادرة. كانت في بداية الثلاثينات من عمرها، نشيطه جدا. في الواقع، يتذكر ابن سيدعدنان سيدهادي والذي ولد في العام 1983م بوضوح جدته التي كانت متواجدة دائما للمساعدة في العديد من المشاريع المقامة للمأتم الذي ورثته عن زوجها.

تقول زهرة «يعيش الناس الآن في وفرة. أما في السابق فقد كان شح في كل شيء. لم يكن هناك الكثير من الطعام للأكل والناس الآن ليست متعاونة كالسابق». بالفعل فرغم التحول الاقتصادي الكبير بعد اكتشاف النفط مع وفرة المال فقد أنتج الجشع لدى البشر. في الماضي كانت العوائل الممتدة المكونة من عشر أو عشرين أسره تقطن في منزل كبير حيث تسكن كل أسرة في غرفة واحدة فقط. أما الآن فإذا سكنت عائلتان معا فستجد الضجيج يعم المكان.

كان زوجها عمدة القرية ويمتلك أول وأشهر مأتم للرجال، والذي تحول فيما بعد للنساء عندما تم بناء مأتم جديد للرجال. مساحته تبلغ نحو 30 * 50 قدما والمعروف باسم مأتم السعدة. كان لديهم قارئة شهيرة تسمى (حباب) والتي توفيت قبل سنوات قليلة، وقد قرأت في المأتم لمدة أربعين عاما. كانت من رأس رمان وزوجها من أهل المنامة. في بادئ الأمر كانت زهرة مسئولة عن إعداد الطعام في المأتم وتعترف بأن الناس من المنامة أفضل في الطهي من أهل سترة. أعجبها الحديث عن الطعام وتذكرت بأنها طهت المچبوس، والمحموص، والبرنجوش وصنع الخبز والحلويات مثل الخبيص والممروس.

تولت إدارة المأتم في وقت لاحق. قال ابنها سيد عدنان «عندما يأتي محرم لا نرى والدتي لمدة عشرة أيام. تختفي تماما من المنزل. إنها تنام في المأتم ولا تأتي إلا يوم الحادي عشر». قضت زهرة سنوات في إدارة المأتم، في بعض الأحيان تأخذ حافلة النقل العام وتذهب إلى المنامة على رحلتين يوميا. كانت تشتري ما يحتاجه المأتم من أدوات وكذلك النعل ومواد وأشياء صغيرة أخرى لبيعها على النساء. وتجمع التبرعات للمأتم ويقدر الدخل بألف وأربعمائة دينار في المناسبات. كانت تذهب مشيا على الأقدام إلى البديع لشراء فروع النخيل لصنع السلال، الحصير والمديد. وتذهب للتلال للحصول على حجارة واستخراج الاثمد (الكحل) منهم وبيعه على الناس.

استرق سيد هادي النظر إلى حياة زهرة «كانت جدتي نشيطة جدا. كنا جميعا نعيش معها في منزل جدي. تأخذ غصن شجرة لتأديب الأطفال بها. لكنها لم تضربنا. تحبنا وتحن علينا بالرغم من انها امرأة صارمة جدا. أتذكرها كطفل، كانت مستقلة في حياتها، تستيقظ في الثالثة صباحاً استعداداً لصلاة الليل وصلاة الفجرثم تجهز شاي الإفطار وتخرج لجلب الخبز. كانت حياتها مليئة بالنشاط إلا أنها بدأت في الآونة الأخيرة تمرض وذلك بعد تعرضها لحادث في الحافلة عند ذهابها إلى المنامة. بدأت صحتها بالتدهور أكثر عندما سقطت في 14 فبراير/ شباط 2011 وكُسر صدرها. كانت تدخن النارجيله لسنوات مما اتعب صدرها وجعله في حاله سيئة للغاية.

لقد عم الظلام فكان علي أن اغادر. ستظل زهرة في ذاكرتي لفترة من الوقت. أدعو لها بحياة مليئة بالسلام وأشيد بانجازاتها. صحيح أن هذه الحياة تعطي ولكنها تأخذ في نفس الوقت وليس هناك شيء بالمجان.

في وقت لاحق من هذه المقابلة أخبرتني رحاب بأن زهرة فارقت الحياة وكان ذلك اثر سكتة قلبية في 13 يناير/ كانون الثاني 2014. كنت حقا محظوظه بأني استطعت أن أسجل سيرة حياتها ومشوارها الطويل. رحمها الله واسكنها فسيح جناته.

صحيفة الوسط البحرينية – العدد 4592 – السبت 04 أبريل 2015م

[6]

آمنة عبدالحسين عبدالله

 

آمنة عبدالحسين عبدالله.

قرية عالي.

تاريخ الميلاد: 1923م.

شهادة: ابتسام الموسوي (حفيدة).

تاريخ المقابلة: مايو/ أيار 2010.

تاريخ الوفاة: ديسمبر/ كانون الأول 2013.

امرأة من قرية عالي في التسعين من عمرها ألهمتني ولامست لديّ مشاعر القوة والتعايش، حقاً أن الله يأخذ ولكنه يعوض، ربما يمنحنا أعضاء للاستشعار بها ولكن هناك أشخاص في هذا العالم ممن لديهم الحواس الخمس ولكنهم يفشلون في استخدامها لما أبعد من ذلك «في دواخلهم وبصائرهم». هذه المرأة مارست القوة لتتمكن من الصمود لمواجهة الحقيقة. فقدت آمنة بصرها في السادسة من عمرها، فأصبحت ضريرة، كانت قوية منذ أن كانت صغيرة إلى أن أصبحت امرأة فقد كان لديها قلب واعٍ وإحساس بالكرامة وعزة النفس. إيمانها عزتها بنفسها قادتها إلى حياة من التحرر والصبر والمعاناة.

كما أخبرتني، بأن رجلاً كبيراً في السن رأى آمنة في مراهقتها بجانب ينبوع الماء الموجود في القرية، بنت بيضاء اللون طويلة القامة ممسكة بجرة الماء على رأسها، تتمشي برشاقة، فُتِن بمنظرِها وصلابة مظهرها الرياضي فطلب يدها. كان يكبرها بكثير، متزوج من اثنتين ولديه الكثير من الأبناء. لم تكن لدى آمنة وبنات أخريات في ذلك الوقت الجرأة في اختيار شريك حياتهن. كان والدها رجلاً فقيراً يتمنى لبناته حياة كريمة. تزوجت آمنة وتركت المنزل وذهبت إلى المنامة لتجد مستقبلاً غير واعد ينتظرها هناك على العكس مما توقعت.

عاشت في المنامة أربعة عشر عاماً مع زوج قاسٍ لا يعرف أي نوع من الرحمة فقد كان يضربها ويعاملها معاملة لا أخلاقية، إلى جانب زوجاته اللواتي لم ينسوا واجبهن تجاه تلك الزوجة التي أهملت وعُوملت معاملة سيئة، ولكن ذلك لم يوقفهن من الغيرة والتآمر عليها للإحباط من معنوياتها على رغم كونها ضريرة.

في هذه الفترة رزقت آمنة بابنتين هما زينب ونعيمة، لم تتحمل العيش مع ذلك الرجل وزوجاته فطلبت الطلاق. غادرت مع بناتها إلى قريتها عالي وسكنت عند والدتها، اكتشفت آمنة أنها حامل بعد طلاقها بابنتها الثالثة فاطمة، فحاول الزوج استرجاعها بإغرائها بأساور من الذهب ولكنها لم توافق على العرض.

بينما كنا جالسين في بيت ابنتها الصغرى فاطمة، همست الأخيره في أذن والدتها «أمي، لو كنت قد قبلتي الأساور الذهبية التي قدمها لكِ والدي لكنتِ اليوم غنية» فردت آمنة «خسئ، لن أنسى ما عمله بي أبداً ولن أرجع إلى شخص مخادع مثله».

رجعت آمنة إلى منزل أهلها في الخمسينيات من القرن الماضي. أكثر من نصف قرن مضى عليها وهي لم تنسَ معاملة زوجها القاسية وتركه لبناته دون سند في أيام الفقر الصعبة ومعاناة الحصول على قوت يومهم وسكن يؤويهم. وزادت معاناتها فقدها لابنتها الوسطى نعيمة ذات الخمس سنوات. فقد كانت تلعب مع خالها بكسارة المكسرات فضربت بها، لقد تركت تنزف كثيراً إلى أن فارقت الحياة، لا أدري ماذا أسميه جهلاً، فقراً أم لامبالاة؟

كان اسم نعيمة يرن في مسامعها كالجرس فكانت كلما سمعت بفتاة أو امرأة باسم نعيمة تسأل «كيف حال نعيمة، كيف هي صحتها؟» فما يكون جواب ابنتها فاطمة «أماه إنها ليست ابنتك، إنها امرأة أخرى، لا تشغلي بالك كثيراً بها» لكنه قلب الأم رقيق وحساس لا ينسى أطفاله ولو طال الزمن على الفراق.

لقد برهنت آمنة على صلابة المرأة وتحملها رغم إعاقتها فقد منَّ الله عليها بملكة وموهبة لتتكسب منها معيشتها «الله أكبر. عندما يغلق الله باباً يفتح سبعة أبواب أخرى للرزق”.

سألتُ آمنة «من علَّمك السفّ (حياكة الأشياء من خوص النخيل)» قالت «ربي» لم تقنعني هذه الإجابة ولكني تداركت بأن آمنة ضريرة وعندما رأيت منتجاتها، هتفت قائلة «سبحان الله، هو الوحيد الذي بإمكانه مساعدة هذه المرأة» رأيت بعض أعمالها مثل القفة وعندما فحصتها رأيت التصميم الرائع وتناسق الألوان. بالفعل كان كل شيء منسق بطريقة محكمة، هو عمل صانع ماهر بإمكانه إنجاز ذلك بجدارة.

بحكمة وإيمان وضّحت آمنة لي «كنت محتاجة فأعطاني الله» وكانت محقة في ذلك، فقد كان مورداً مادياً بالنسبة لها. عاشت مع والدتها وبناتها وأمضت طوال حياتها تسف إلى أهالي عالي. ولكن في الوقت الراهن ومع تقدمها في السن توقف الطلب على بضاعتها. لقد افتقدت السف كثيراً وأوضحت بأنها تحب عملها وبإمكانها إنجاز أي طلبات جديدة.

تعتمد قرى البحرين في السابق على النخلة في أشياء كثيرة. فالنخلة تعطيهم الرطب (من كتاب «من تراث البحرين الشعبي لصلاح المدني وعبدالكريم العريض الطبعة الثانية 1994 ص 188). فهو غذاء جيد. أما جريد النخيل فيستخدم في صناعة الحصير والسلال الصغيرة والكبيرة وأغراض أخرى. يستخدم سعف النخل في صناعة السلال وحياكة السجاد وكذلك المراوح اليدوية. فالحصير مصنوع من سعف النخيل ومحاك بطريقة مميزة. يستخدم في المنازل للجلوس عليهم. أما أن يكون بلون واحد أو عدة ألوان. يتشابه الحصير والسفرة في كل شيء عدا أن الحصير يأخذ شكلاً مستطيلاً أو مربعاً، أما السفرة فتأتي على شكل دائري. يستخدم الحصير للجلوس عليه بينما تستخدم السفر لوضع الأكل فوقها. والزبيل هو عبارة عن حاوية ذي عدة استخدامات في وضع حاجيات المنزل وكذلك الخضراوات. يستخدم الزبيل في نقل الرمل والحجارة في القديم، وكان يستخدم أيضاً في نقل حاجيات العروس من بيت أبيها إلى بيت زوجها. يحتوي على مساكتين مصنوعتين من الخيوط أو السعف لتسهيل الاستخدام. أما الميص فهو نوع آخر من الزبيل ولكنه يختلف بعض الشيء عن الزبيل العادي في الحجم. يأتي الميص بحجم أكبر من الزبيل. يستخدمه صيادو السمك لعرض الأسماك للبيع في السوق على الأرض وذلك قبل إنشاء السوق المركزي.

القفة هي أصغر من الزبيل، تستخدم في تخزين الملابس وبعض حاجيات المنزل، دائماً تكون مطرزة بألوان زاهية. عموماً تستخدم القفة في تنظيف الرز من الشوائب. وكذلك تستخدم بمثابة المنخل قبل استخدام المنخل المعدني في الوقت الحاضر. والسفرة هي عبارة عن سجادة دائرية الشكل بها ممسكة وممسكتان مصنوعتان من أغصان النخيل، لتسهيل عملية الت ليق على الجدار. تأتي السفرة بنقوش مختلفة وألوان متعددة. يستخدمها الناس بدل المرتبة التي توضع على السرير أو الكرسي وحتى بمثابة طاولة الطعام في هذه الأيام وعلى الأرض في تلك الأيام عندما كان الطعام يقدم على الأرض. أما القلة فهي قفة كبيرة مصنوعة من الخوص لوضع البلح عندما يصبح تمراً للحفاظ عليه من الغبار أثناء عملية الحفظ. غالباً ما تكون أسطوانية الشكل ومغطاة من الجانبين بخيوط مصنوعة من سعف النخيل. وغالباً لا تكون مزخرفة. وتعرف المروحة بالمهفة وهي مربعة الشكل ممسكة بقطعة من جذع النخلة لسهولة الاستخدام وتكون مزخرفة بألوان زاهية، تستخدم للتبريد ولتقليل الحر قبل دخول المروحة الكهربائية والمكيف.

تأخذ آمنة شهراً كاملاً في صناعة الحصير بمقاس 60 باعاً (أربعة أذرع – ياردتين قياس قدم) وفي المقابل يدفع لها خمسون فلساً سعر لذلك في زمنها. ارتفع السعر بعد ذلك إلى 6 روبيات. أتخيل كيف لتلك المرأة الفقيرة أن تقضي كل ذلك الوقت والحصول على القليل من المال.

لقد تأثرت كثيراً حين رأيت انحناء ظهرها إلى أقصاه عندما كانت تهمّ في الذهاب إلى دورة المياه. توضح لي بأنها كانت طويلة القامة فعلاً وفقدت نصف طولها من هذا الانحناء. كنت سعيدة وأنا أراها تقوم بجميع أعمالها الخاصة مثل الاستحمام والذهاب إلى الحمام وترتيب حاجياتها وكذلك الاعتناء بنفسها. الحمد لله فهي لا تعاني من أي مرض عضال مثل الضغط والسكري ولكنها تأخذ دواء لآلام الركب. كما ذكرت لي ابنتها «لم أشعر أنها حمل علي. فهي تأكل جيداً وتنام جيداً ولا تحب أن تكون مريضة وتستمع جيداً لتعاليم الأكل الصحي”.

عندما كنت جالسة، طلبت من حفيدتها أن تعطيها فنجاناً من القهوة ولكنها أعطتها استكانة (كوب يستخدم للشاي الأحمر) ثانية من الشاي فرفضتها قائلة «للتو شربت واحد، أريد قهوة؟”

سألتها «ماذا تقولين عن الحياة اليوم، حاجيه؟» ردت قائلة «اليوم، نحن نعيش نعمة بني إسرائيل، لم نكن لنكسب عشرة دنانير في ذلك الوقت ولكن الآن نحن نكسب العشرة والعشرين». أمانينا الطيبة للمرأة القديرة التي كافحت بإيمان وقوة إرادة. آمنة هي فقط أحد الأمثلة التي لابد أن تذكر.

في سنها الكبير تقضي آمنة وقتها بالاستماع إلى قناة إيران الإذاعية. وهي تعرف أسماء خطباء المنبر الحسيني منهم فاضل المالكي وكمال الحيدري. فهي تضع إشارة على كل شريط لكي تميز بينهم والاستماع لما تشاء حيث تشاء.

همست ابنتها في أذنها «كم تاريخ اليوم؟» فأجابت «اليوم هو 28 من ذي الحجة وهو يوم الأحد بالليل» وكانت محقة في ذلك. لقد بهرتني لقوة انتباهها للوقت واليوم.

شعرها طويل وهي تطليه بالحناء وتعرف الوقت الذي يوجب عليها إعادة طلائه. فقدت معظم أسنانها وكذلك سمعها. لحسن الحظ، كانت قادرة على الذهاب للحج. كما قالت لي ابنتها إنه أخذها أخوها إلى الحج وطاف بها الشوط الأخير حول الكعبة على كتفه.

لفتت انتباهي قصة آمنة وجعلتني أفكر كيف لي أن أستمر في هذه الحياة. حقيقة، فالعيش لعمر التسعين لابد أن يكون رحلة طويلة لا يبقى فيها إلا الأصلح.

في يناير/ كانون الثاني 2014م كانت والدتي ترقد في المستشفى في وحدة عناية القلب وزارتها ابتسام حفيدة آمنة. أخبرتني ابتسام بخبر وفاة والدتها قبل شهور وكان لذلك الأثر المؤلم بالنسبة لآمنة (والدة المتوفاة) فتردّت حالتها الصحية إلى أن وافتها المنية في 23 ديسمبر 2013 بعد حياة مليئة بالتحمل والصبر.

صحيفة الوسط البحرينية – العدد 4599 – السبت 11 أبريل 2015م

[7]

المرأة والسحر الأسود

كانت النساء منذ القدم يمارسن طقوس وعادات لربما لا تمارسنها نساء اليوم، ومن تلك الممارسات التعويذات عن السحر والعين (من كتاب نافدة على التاريخ (بيت العريض) لعبد الكريم العريض). هناك أمثله كثيرة على ذلك منها كتابة الأحراز بطلاسم معينة لفك السحر، وكتابة المحو بماء الزعفران ليشربه المنظور أو المسحور، ووضع الحديد الساخن في الماء لفزعة الجن وخروجه من المصاب (تستخدم حدوة الفرس العتيقة في هذه المناسبة)، وعمل «العدرة» وهي نوع من الطبيخ كالحلوة والتمر يوضع على صخرة اعتاد الناس على وضع نذورهم عليها كحجرة «أم حمار» في الماحوز أو مقام الخضر (اليسع). تلك الطقوس لم تأتي من فراغ لأن علم التطبيب والتداوي باستخدام الطلاسم والأحراز هو علم يرجع إلى تاريخ الطب القديم عند قدماء المصرين والهنود واليونانيين. ربما يراها الطب الحديث بأن تلك الممارسات أمور لا تجدي نفعاً وأن الدواء الكيمائي هو الحل الفاصل في صحة الإنسان، ولكن عندما نتبحر أكثر في ذلك العلم سنجد أن العلاجات الروحانية التي تتسم بالطاقة الإيجابية ربما تكون أكثر نفعاً من علاج أكبر الجراحين.

لو تعمقنا بدقة أكثر في طبيعة الأشياء سنستوعب بأنه في الحقيقة لا يوجد شيء يسمى «لا طبيعي» أو خارق فكل شيء يحدث طبيعي، ولكن الطبيعة بحد ذاتها أمر عميق ومعقد، كونها تحتوي على احتمالات أكثر مما هو مقبول لدى معظم الناس. لقد صاغ الروائي والمخترع البريطاني آرثر سي كلارك ثلاث قوانين وهي: حينما يقول عالم بارز أن شيئاً ما ممكن فهو محق، وإذا قال أن شيئاً ما مستحيل، فهو مخطئ. والقانون الثاني هو أن الطريق الوحيد لاكتشاف حدود الممكن هو أن تغامر ماراً من هذه الحدود إلى المستحيل. أما الثالث فهو أن أي تقنية متقدمة بصورة كافية لا يمكن تمييزها عن السحر.

يشير القانون الأخير إلى التقنية الفيزيائية للقوى الروحانية والذهنية وهو يرى أنه لا يوجد تناقض بين العلوم الحقيقية وما يدعى بالسحر.

هناك أمور تحدث للإنسان لا يجد لها تفسيراً منطقياً بحسب ظنه. قد يقول البعض بأنه سحر، ويقول آخرون بأنها خرافات ولا وجود لتلك المسميات في عالمنا المعاصر. لقد سنحت لي الفرصة لمقابلة امرأة قد تثير حكايتها الجدل لدى البعض وربما تكون موضوعاً للنقاش والبحث في علم السحر والطاقات السلبية.

أم جاسم امرأة في الستينات من عمرها تمتهن مهنة التدليك أو «مرّاخة» كما هو معروف في البحرين. تقصدها النساء للتدليك عندما تكون لديهن مشاكل في الحمل أو تعسر الولادة، لرفع الرحم، أو عند عدم انتظام الطمث لديهن. ورثت أم جاسم مهنتها من والدها وجدها اللذين كانا يقومان بعمليات تثبيت عظم اليد والكف (التجبير) بمثابة طبيب تقويم العظام في وقتنا الحاضر.

تزوجت أم جاسم في السادسة عشر من عمرها. كانت حينها شابة لا تعلم أي شيء من إشكاليات الحياة، ترعرعت مع والدين بسيطين طيبي القلب. في بداية زواجها أنجبت مولودين ذكر وأنثى. وفي ليلة من الليالي رأت في منامها امرأة قدمت إليها وكانت تريد أخذ ابنتها منها، كانت مذعورة ورفضت إعطاءها الطفلة. في الليلة الثانية رأت في المنام رجلاً يجري خلفها ويريد أخذ طفلتها منها. وفي اليوم الثالث صدمت سيارة ابنتها وعلى أثر هذا الحادث ماتت الطفلة.

كانت حينها حامل في شهرها الثامن عندما رأت في منامها رؤية أخرى فكأن شاة تركلها على ظهرها. في صباح اليوم التالي و أثناء قيامها بالأعمال المنزلية، انفجر كيس الماء في رحمها وعند حضور القابلة لإخراج الطفل، وجدوه ميتاً مكسور اليدين متورم العين. استمرت حالات الإجهاض لأم جاسم لثماني مرات متتالية.

نصحها الناس بأن تذهب إلى عراف للتحقق مما إذا كان ما يجري لها هو من تأثير سحر أو عين ولكن دون جدوى، فقد كان زوجها معارض بشدة فكرة تأثير السحر على الإنسان. كان زوجها متأثر لحالتها الصحية وبالمقابل كانت هي تخشى أن يتزوج عليها من امرأة أخرى. ولم تكن متأكدة مما عليها فعله إزاء ذلك الأمر.

بعد سنوات من المعاناة، التقى زوجها شيخ دين من العائلة في الطريق، استفسر الشيخ عن حالة أم جاسم وتأثر جداً لوضعها. أفاد بأن ذلك ربما يكون من أثر «التابعة» وهو جني من أتباع شياطين الجن الذين لا يموتون بل ينتقلون مع الأجيال.

بعد ما قاله الشيخ، قرر الزوج الذهاب إليه حتى يقوم بالحسابات الفلكية وكشف الطالع لزوجته. أخبره الشيخ بأن على زوجته «تابعة» تقتل الأطفال تدعى «أم الصبيان» ووفقاً لذلك أعطاها العلاج اللازم والمتمثل في حرزين (والحرز هو ورقة مكتوب عليها آيات قرآنية وطلاسم وعليه توكيل من الجن العلويين). تضع أحد الحرزين أمام الرحم والآخر على الظهر بعد تثبيتهم في حزام يلف حول الخصر. وعليها أن تنزع الحزام عند دخولها لدورة المياه لما يحتويه من آيات قرآنيه.

تحسنت أحوال أم جاسم بعد ذلك العلاج وأنجبت ابنتين. عندما سمعت أخت زوجها بأمر الحرز ومفعوله طلبت منها أن تعطيها إياه للتبرك به فسلمته لها بحسن نية. غضب زوجها لفعلها وزجرها لاستهانتها بالأمر. بعد خلع الحرز، أنجبت أم جاسم صبي ولكنه كان مريضاً جداً، وضع في العناية المركزة لأنه كان يعاني من الكثير من التشوهات الخلقية، فلم تكن لديه فتحة شرج، وأحد صمامات القلب لم يكن يعمل، كان لديه انسداد في الشرايين وانسداد في القنوات البولية وفتحة في المريء. كان الطفل أيضاً غير قادر على شرب الحليب إلا من خلال أنابيب التغذية. أجريت له عدة عمليات في السعودية وفي كل مرة يتم فيها إصلاح عضو تنتقل «التابعة» إلى عضو أخر وتضرره.

في يوم من الأيام قررت أخت أم جاسم والتي كانت بدورها تعاني من بعض المشاكل، الذهاب إلى امرأة تقرأ القرآن وتكشف الطالع والتي بإمكانها أن تقوم ببعض الوقاية عن السحر. قالوا لها عن أم يوسف التي اتخذت هذه المهنة من والدها. رافقت أم جاسم أختها حيث كانت تريد الكشف عن ابنتها البالغة من العمر 24 سنة في ذلك الوقت ومعرفة سبب تأخرها عن الزواج. من خلال الكشف علمت أم يوسف بأن الفتاة مسحورة، وأن هناك امرأة تأتي وتسكب الماء المسحور على باب البيت وأنذرتها بأنها سوف تعود مرة أخرى. قرأت أم يوسف شيئاً لبطلان السحر وأعطت أم جاسم محو (المحو هو آيات قرآنية مكتوبة بالزعفران على ورقة بيضاء أو صحن أبيض يستخدم للعلاج من المس والعين والحسد والسحر والخوف. تذاب الكلمات المكتوبة بالماء وتشرب أو تسكب على المكان المسحور). طلبت منها إذابة الكلمات الموجودة فيه بماء وسكبه على مدخل البيت. استطاعت البنت الزواج بعد علاج أم يوسف والتحرر من سحر المرأة الشريرة.

من خلال كشف الطالع، استطاعت أم يوسف أن تستدل بأن أم جاسم تعمل كمدلكة، فطلبت منها أن تزورها في البيت للتدليك، وما أن دخلت المنزل حتى رأت الكثير من الجن في ساحة (حوش) المنزل، فأعلمتها بأنها في حاجة إلى الحماية الكاملة من سكن أولئك الجن. كان هذا منذ أكثر من عشرين عاماً. استطاعت أم جاسم تزويج بناتها وأصبح ابنها الأصغر في حالة صحية أفضل بعد فك السحر عنه وبالطبع بمساعدة العلاجات الطبية الأخرى.

إن الساحر ورواده، أولئك الذين يقصدونه بغرض ضرر الناس، هم أشخاص سيطرت عليهم الشياطين ودخلوا عوالم الظلام والكفر ببغيهم. فعادة ما يكون المتعامل مع السحر لمدة طويلة مدمن لأنه بممارسته لتلك الأمور يكون أسير شيطانه غاضباً عليه ربه. من خلال بحثنا وجدنا أن من الممارسات الشائعة التي يقوم بها هؤلاء هي الأعمال الشيطانية، اللعنات و ما يسمى بالفودوو (لمعلومات أخرى انظر الرابط http://www.dudleyandsabina.com ).).

فالعمل الشيطاني هو عمل ضار يلحق الأذى بشخص آخر باستخدام النوايا الحاقدة. وعادة ما ترفق تلك الأعمال بالطقوس والتعاويذ الشريرة. في الغالب يكون الجاني قد جلب معه أثراً لمتابعة الضحية مثل خصلة من الشعر لتشكيل اتصال قوي يتم من خلاله الحفاظ على الطاقة السلبية التي تمكن الجاني في عمله الشيطاني. وعند إيقاف وسلب تلك الطاقة من الساحر يفقد قوته تلقائياً مما يؤدي إلى نهايته.

أما اللعنة فهي بلاء روحي تخلق مرة واحدة، لديها طاقة من تلقاء نفسها، مما يمكنها من مواصلة مفعولها لفترة طويلة حتى بعد وفاة مصدرها، وأحياناً تبقى لعدة قرون، إلا أنها لا تمتلك أي وعي من نفسها. ويمكننا مقارنتها مع النفايات النووية المشعة التي لاتزال كونها مواداً سامة إلا أن بإمكانها تأثير الضرر لفترة طويلة، رغم موت أولئك الذين أنتجوها. وعادة ما ترتبط اللعنة بالمنافسات في العلاقات العاطفية والغيرة، وهو ما يسبب فشل العلاقات الشخصية لعدة أجيال من العائلة. و كما هو الحال مع العمل الشيطاني، فمن الممكن إبطال مفعول اللعنة وإنهائها باستخدام السحر الأبيض وهو عكس السحر الأسود يتم استخدامه في الحصول على أشياء نتمناها بعيداً عن إلحاق الضرر بالآخرين.

ومن ناحية أخرى نجد أن «الفودو»(voodoo) هو الخبث بحد ذاته، فهو يختص في الأغلب بضرر في الصحة الجسدية للضحية. ووفقاً لمعتقد سائد فإن أتباع الفودو يمكن أن يغرسوا دبابيس في دمى تمثل أعداءهم وحرقها على أمل إصابتهم بالسوء. أما الهودو (hoodoo) فهو نوع آخر من أنواع السحر الأسود الذي يقوم أهله باستخدام الأشباح والجن لخدمتهم .

الشائع في العالم كله أن النساء أكثر حباً للشعوذة وهم بنصف عقل كما يعتقد البعض. وربما يكون السحر في زمننا هذا موجود بأشكال مختلفة فقد أصبحنا نسمع عن ألعاب للأطفال بها رموز سحرية وأفلام كارتون تعلم أطفالنا رموزاً لم نرها من قبل وكل هذا بمثابة غسيل للادمغة، كي نبتعد عن الأخلاقيات والمثل الإنسانية العليا. لو نظرنا إلى القرآن الكريم وقرأنا قصص الأنبياء مثل قصة النبي موسى والسحرة سيتضح لنا أن السحر علم قديم وموجود وبالمقابل يأتي قوله تعالى «ولا يفلح الساحر حيث أتى”.

صحيفة الوسط البحرينية – العدد 4606 – السبت 18 أبريل 2015م

[8]

المرأة ورعاية الأبقار

قال غاندي «إن البقرة هي أم الملايين من الهنود، وحمايتها تعني حماية كل المخلوقات»، ويُعتقد أن البقرة الأم أفضل من الأم التي ولدتنا في عدة نواحٍ؛ فالبقرة في الهندوسية تعتبر مقدسة ويجب حمايتها وينظر لها على أنها أم ورمز الوفرة لصفاتها المعطاءة من توفير اللبن ومشتقاته ولها مكانة محترمة في المجتمع الهندي حيث يحرم أكل لحمها. تتجول الأبقار في شوارع الهند وحتى في شوارع دلهي. ولقدسيتها يعتبر إعداد وتقديم وجبة الطعام لها قبل إفطار الناس جالباً للحظ، وقد يسجن الشخص الذي يقتل أو يؤذي بقرة في الأماكن التي يحرم فيها ذبحها.

تتحدث أمي عن الحظيرة التي كانت في منزلهم في فريق المخارقة بالمنامة، تقول «كان عمري آنذاك خمسة عشر عاماً، كنت أراقب «أم علي» والتي نسمّيها (أم علِيُّوه) وهي امرأة تعمل لدى أمي شيخة منذ سنوات في تربية البقر وحلبها وبيع الحليب على الزبائن الذين كان أكثرهم من الجيران، إلا أنها كانت تقوم في بعض الأحيان بخلط الحليب بالماء وعلى الخصوص إذا كان منتج الحليب قليلاً». تقول أمي إنها كانت تعترض على فعلها ويدفعها ذلك في العديد من المرات بسكب الحليب في حوض غسيل الأواني، حيث إن هذا العمل غير لائق.

في تلك الأيام الخوالي كانت البيوت في معظمها تربي أنواع من الحيوانات أو الطيور، كالبقر والأغنام والحمير والدجاج والحمام. تعتبر البقرة ذات القيمة الاقتصادية الأفضل في ذلك الزمان ودخلها مضمون من بيع الحليب ومشتقاته كالروب واللبن والزبد وبيع العجول، حيث إنها كانت سلعة رائجة في سوق المنامة في ذلك الوقت. فقد يؤكل لحمها أو تربى للاستفادة من بيع نسلها. كما يستفاد من عظامها بعد طحنه في تسميد التربة لاحتوائه على الكالسيوم وكذلك يستفاد من جلودها في عدة صناعات مختلفة ومن روثها في الزراعة كسماد طبيعي والذي يعتبر من أفضل الأسمدة للزراعة وخصوصاً لزراعة الخضراوات والفواكه. في الماضي كان روث البقر يستخدم كوقود للطبخ بعد أن يتم خلطه بالتبن وتشكيله في أقراص مستطيلة وتجفيفه بواسطة الشمس. من هنا جاءت العبارة الدارجة عندما يعتب إنسان على آخر فإنه يقول له (ما فيك خير، فيرد ويقول: الخير في البقر).

تعتبر الأبقار صديقة للبيئة وذلك لأن جزءاً كبيراً من الغذاء الذي تتناوله هو من منتجات مزارع البحرين الطبيعية كالجت (البرسيم)، والأعشاب التي تنبت طبيعياً حول السواقي، ومجاري العيون الطبيعية، والتي تُعرف بـ (السيبان) باللفظ الدارج، تتناول الأبقار في غذائها أيضاً تمور النخيل غير الصالحة للاستخدام البشري، و «الطعام» (نوى التمور)، والبلح. كما تتناول الأبقار»العومه « والأطعمة الفائضة من موائد الناس وبعض أنواع الأسماك الصغيرة المجففة التي لا يرغب الناس كثيراً في تناولها. تستخدم العديد من منتجات النخلة في تزيين الأبقار، وربطها، وصنع الأواني التي تأكل فيها.

ومن ناحية أخرى، تعتبر رعاية الدجاج أمر مكمل لرعاية الأبقار، فكما توفر الأبقار غذاءً جيداً لأفراد الأسرة فكذلك الدجاج فإنه يوفر لهم البيض واللحم الأبيض. يفضل أكل ذكر الدجاج (الديك) على الدجاجة لوجود فائض منه. لا يحتاج الدجاج إلى أكل منفرد عن للأبقار لأنه يتغذى على المتبقي من العلف والحشرات والدود المتواجد في الحظيرة فنجد هنا علاقة المنفعة بين الجانبين. مقارنة برعاية الماشية فإن رعاية الدجاج أمر تختص به النساء أكثر، حيث تربي كل امرأة مجموعة من الدجاج في المنزل وتقوم بعضهن ببيع الدجاج والبيض في سوق الأربعاء الأسبوعي.

كان للمرأة في الماضي دوراً محورياً في تربية الأبقار والقيام بواجبات المنزل المختلفة فقد كانت تقوم بأعمال المنزل الكثيرة بمفردها دون وجود خادمة أو مساعدة، وهذا ما أعطاها قوة جسدية وصحة جيدة، فلم تكن المرأة في الزمن الماضي تشتكي من أمراض العصر كارتفاع الدهون والسكر والضغط على عكس نساء اليوم. يروي الأستاذ عبدالله عمران في بحثه عن الأبقار:

معصومة بنت يوسف بن محسن من سكنة قرية بلاد القديم وهي ربة بيت ولديها أبقار في بيتها تقوم على رعايتهم والاعتناء بهم. تستيقظ أم محمود كما تُعرف قبل أذان الفجر بقليل وتستعد لصلاة الفجر وبعد ذلك مباشرة تحمل على رأسها أواني خاصة لجلب الماء من (الساب) وهو جدول الماء الذي يأتي من عين قصاري فتملأ الأواني بالماء قبل تعكره من تأثير حركة النساء في غسل الأواني والثياب واستحمام الأطفال. ثم تعود إلى منزلها لتضع الماء في الحَب (إناء من الفخار خاص للشرب)، وتستخدم المتبقي من الماء للطهي. ثم تقوم بتنظيف الزريبة، وإطعام الأبقار، وحلبها ومن ثم تعد وجبة الفطور للعائلة وتعود للساب لغسل الملابس. ترجع إلى البيت ومعها الملابس النظيفة وتستعد لطهي وجبة الغذاء وبعد الانتهاء من الطهي وتنظيف البيت تقوم بزياراتها المعتادة إلى الأهل والجيران وربما تذهب إلى المنامة مشياً على الأقدام لزيارة أهلها هناك وتهمّ بالعودة إلى البيت قبل أذان الظهر. تهيئ وجبة الغذاء للأبقار والعائلة وبعدها تغسل أواني الغذاء في الساب. ثم تؤدي ما عليها من التزامات دينية، أو اجتماعية في منطقتها إلى أن يحين أذان المغرب فتستعد للصلاة، بعد ذلك تذهب للزريبة من جديد للاعتناء بالأبقار، وتقديم الوجبة المسائية لهم، وحلبها للمرة الثانية وإعداد طعام العشاء لعائلتها حيث ينشغل زوجها بالاستماع لنشرات الأخبار، وخاصة من إذاعة لندن! يتناول الجميع طعام العشاء، تغسل الأواني، والتي تُعرف بالمواعين، وبعد الانتهاء من كل ذلك تزور الزوجة مجالس النساء ثم تخلد للنوم، وهكذا تستمر دورة الحياة عند نساء الريف. حقاً إنها امرأة نشيطة جداً نادرة الوجود في زمننا هذا كما يقول المثل (هابَّة ريح!).

للبقرة حكايات كثيرة نذكر هنا بعضاً منها. بقرة «حسناء بنت محمد حسين العريض» التي عاشت خمسة وعشرين سنة وكانت تنال عناية خاصة ويحبها ويبجّلها كل أفراد الأسرة وكانت العمّة حسناء تقول إلى الأطفال هذه أمكم البقرة التي تعطيكم الحليب. كانت تبيع حليبها وتجمع المال لصرفه على مأتم النساء والذي كان يعرف بمأتم «بيت محمد حسين». كان طعام البقرة يأتي من مزارع أخيها «منصور العريض»، وكانت العجول تباع للذبح حيث تجمع حسناء أثمانها لإنفاقه على العديد من المناسبات في شهر محرم وصفر ورمضان. أنجبت هذه البقرة ثلاثة أجيال. بقرات حلابات وكان يضرب المثل ببقرة «حسناء»، لدى أهل المحلة – لما تدرّه من حليب.

وللحسد حكاية أخرى مع البقر، فقد كان لسيد خلف صديق مشهور يمتلك مقدرة من الحسد في عينيه، وعندما يرى شيئاً غريباً لأول مرة يتبع نظرته بالشهيق. كانت لسيد خلف بقرة من الأبقار الأصيلة «الحلابة الولود» وكانت حاملاً وفي آخر أيام ولادتها في زريبته في بستان أبو الدبس في العدلية.

كانت البقرة في ساعتها الأخيرة للوضع، أمر السيد خلف العمال بإغلاق الزريبة ووضع ستارة كبيرة عليها لكي لا يراها الغرباء والزوار، وكان من عادة صديق السيد خلف أن يأتي عصراً إلى البستان وقد أذنت ساعة قدومه وكان السيد خلف قلقاً من أن يرى هذا الصديق البقرة، فلم تكن إلا دقائق وقد وصل الصديق إلى البستان وفي طريقه إلى المجلس الذي كان قريباً من الزريبة. كان القدر بالمرصاد حين هبّت موجة من الرياح ورفعت الستارة الكبيرة عن الزريبة وانكشفت البقرة أمام عين الصديق وفي لحظة هتف الصديق «هذا ويش هالبقرة، كأنها محمل أسفار» ولم تكن سوى ثوانٍ حتى سقطت البقرة أرضاً وأخذت تضرب رأسها بالأرض حتى خمدت أنفاسها وماتت.

قال والدي عبدالكريم العريض إن أمه حسينيه خسرت بقرتها والتي كانت تعتمد عليها في الصرف على احتياجاتها الخاصة. كانت بقرة سوداء ولكنها شرسة كما وصفها والدي. ذات يوم كان أخي صالح الذي كان عمره آنذاك ثلاث سنوات يحاول أن يلعب مع البقرة وما كان منها إلا أن نطحته في رأسه وسقط على الأرض والدماء تنزف من جبهته. قرر والدي التخلص من البقرة وإرسالها إلى بلاد القديم إلى بيت خالي السيد ناصر، حزنت والدتي على بقرتها وقلبها على ولدها.

مع تقدم العصر وانشغال الناس في وظائفهم الجديدة وتغير نمط حياتهم وأماكن سكنهم اندثرت مهنة الأبقار من المنازل لعدة أسباب منها صعوبة المهنة، وانشغال المرأة عن هذه الأعمال التي تعتقد بأنها لا تلائم المرأة المعاصرة ووقاية للصحة العامة وكذلك لقلة المردود المادي وعدم تقبل الجيران لهذه المهنة لما تنتجه من روائح كريهة.

أصبح الجيل الجديد متمسكاً بالأعمال المكتبية والصناعية بدلاً من أعمال المزارع وتربية المواشي وكان لهذا الأثر الكبير في انخفاض هذه المهنة بشكل كبير، فما تبقى من الحظائر في الوقت الحاضر فإنها تكافح من أجل البقاء. قد نرى أن المرأة أصبحت تخاف من الحيوانات وإذا ذكر اسم أي حيوان لبعض البنات وهن يأكلن فربما تقول لك بأنها قد اشمأزت من هذا الأمر. أصبح المجتمع بعيداً عن الطبيعة وهذا بحد ذاته شيء مخيف لأن الإنسان هو كائن حي وأحد أفراد النظام الكوني وإذا اعتزل الطبيعة فإنه قد يجلب لنفسه المرض والضيق النفسي. ويُقال: «ثلاثة أشياء يذهبن الحزن: الماء والخضرة والوجه الحسن»، ولكن للأسف أصبحت البحرين مكدسة بالمباني عندما ردم البحر وجفت العيون الطبيعية وأبعدت الحيوانات إلى المحميات.

في الماضي كنا نرى الحمير وهم يتجولون في الأسواق مع أصحابهم البشر وفي القرى تتجول الخرفان والغنم في المساحات الخضراء ولكن كل هذا اختفى لأن المدنية غلبت على الطبيعة وأصبحنا نرى صور الحيوانات على علب الحليب والروب والجبن وعلى شاشات التلفزيون وإذا شاءت لنا الأقدار بأن نرى حيواناً ما فإننا نفرح ونضحك أو ربما نصرخ من الخوف.

إن الزراعة وتربية المواشي مهنتان قديمتان لابد أن تظلا وذلك للمحافظة على جانب من الحياة البيئية والتراث الشعبي، بالإضافة إلى ذلك فإن هذه المهنة قد تستوعب عدداً لا بأس به من الأيدي العاملة البحرينية ما يساهم في تقليل البطالة، وخلق فرص عمل إضافية جديدة لشباب البحرين، كما يمكن الاستفادة منها على المستوى السياحي، وبالإمكان تطويرها للأفضل.

صحيفة الوسط البحرينية – العدد 4613 – السبت 25 أبريل 2015م 

[9]

المآتم بين الماضي والحاضر المعاصر

كربلاء هي ملحمة ألهمت الشعراء والأدباء وكُتّاب السير، وأصبحت منارة امتدّ إشعاعها خلال القرون في مجالس كُرِست لإبراز مظلومية الحسين وأهل بيته وأصحابه الذين سقطوا صرعى في تلك المعركة التي لم تكن متكافئة. أثبتت فيها فئة صغيرة مؤمنة أمام جيش جرار من الشجاعة والإباء ما قلب الموازين إلى جانب تلك الفئة التي ضحت في سبيل مبادئها. كانت هذه المأساة التي حلّت بالحسين سبط الرسول محمد (ص) وأهل بيته من قتل وسبي من الحوادث التي أثرت تأثيراً عاطفياً في وجدان المسلمين وهزّت مشاعرهم.

لعبت زينب دوراً كبيراً في فكرة تأسيس المآتم، وذلك لما شهدته هي وابن أخيها الإمام علي بن الحسين (زين العابدين) من أحداث شنيعة ومأساوية في معركة الطف، وما تجملت به من التحمل والصبر في الأسر بعد ذلك. فكانت الكوفة هي أول مدينة دخلها موكب الأسرى وهم في طريقهم إلى الشام حيث إن دمشق آنذاك كانت مركز الخلافة الأموية وفي الكوفة بدأ الفصل الأول في تأسيس المأتم الحسيني. هنا في الكوفة صنعت زينب والأسرى دراما مأساوية انضم إليها أهل الكوفة على رغم عدم اشتراكهم في المعركة لمؤازرة الحسين والدفاع عنه، غير أنهم أدركوا في نهاية الأمر عمق المأساة التي تعرض إليها ابن بنت نبيهم وآل بيته.

أول من انبرى في كتابة هذه الحادثة الأليمة بالتفاصيل الدقيقة هو (أبومخنف بن لوط) سنة 61 هـ (كتاب مقتل الحسين، أبومخنف بن لوط)، وحدى حدوه الشعراء الذين صوروا تلك الحادثة في قصائد صورت فظاعة الجرم الشنيع الذي ارتكب بحق آل بيت الرسول. وكان للشعر المرسل الوصفي أهمية في التعريف عن القضية التي استولدت شعور بالثأر فجاءت تأثيرات تلك المعركة في الثورات التي وقعت بعد سنوات قليلة، في صور ثورات احتجاجية كثورة المختار الثقفي وسليمان بن صرد الخزاعي، وعدد من الثورات في الكوفة كثورة زيد بن علي والدعوة العباسية، وبقيت عنواناً لكل ثائر على السلطة.

تبلورت فكرة إحياء مراسيم معركة الطف وتطورت بمباركة من الأئمة المعصومين. حيث كان الإمام يجلس مع أهله ومحبيه في الذكرى السنوية لاستشهاد الإمام الحسين لقراءة المرثيات والقصائد التي تصور ما حلّ بأحفاد وحفيدات النبي في كربلاء، أو قد تكون القراءة على قبر الإمام الحسين وأخيه العباس خلال زيارة المشاهد المقدسة في كربلاء.

ثم نضجت الفكرة صعوداً وأخذت موقفها الرسمي داخل الحكومات الشيعية مثل بني بوئيه في بغداد، الحمدانيين في حلب، الفاطميين في المغرب ومصر والصوفيين في إيران. وعلى مر السنين تطورت تلك الثقافة الأصيلة الغنية بالبلاغة والأدب، المتميزة بالنبرة الحزينة، وعرفت باسم «أدب الطف». حيث تتوازن أساليبها بين الشعر والنثر باللغة العربية الفصحى والعامية على حد سواء، فضلاً عن لغات أخرى.

بدأ هذا التراث الثري من خلال فكر المتعلمين والشعراء من أهل البيت ومحبيهم أمثال دعبل بن علي الخزاعي، الكميت، أبو العلاء المعري، أبوفراس الحمداني، صعصعة بن صوحان، سليمان بن صرد الخزاعي، الفرزدق، سفيان بن مصعب العبدي، ابن الرومي، البحتري، المتنبي، سيف الدولة الحمداني، الشريف الرضي وأبو الأسود الدوؤلي. أما في البحرين فنجد الشيخ حسن الدمستاني، ملا عطية الجمري، الشيخ جعفر الخطي، الشيخ سليمان الماحوزي، ومئات الشعراء والرواديد العرب والأجانب (من إيران وشبه القارة الهندية).

ثم تأسس أول هيكل مستقل للمآتم في القاهرة أيام المعز لدين الله الفاطمي. فقد كانت القاهرة معروفة في عهد الفاطميين بتعليق السواد في الأسواق ووضع الرايات السود وخروج المواكب الحسينية في اليوم العاشر من شهر محرم من كل عام، كشعار للحزن والتعاطف مع آل الرسول.

انتشر المأتم بعد ذلك على نطاق أوسع كوحدة مستقلة بذاته، وكان دوره هو إحياء ذكرى معركة الطف وتوضيح منهجه أكثر في العصر الحديث. وكان على الحركة الحسينية ألا تكون مقيدة في ذكرى يوم العاشر من محرم فقط، لذا امتدت لتشمل شهري محرم وصفر، بالإضافة إلى مناسبة ذكرى وفاة وميلاد النبي وأهل بيته (ع).

ومن هنا جاء تخصص الرجال والنساء في هذا المجال فمنهم من كتب القصائد ودون القصص ومنهم من تعلم أسلوب الخطابة الحسينية والرثاء والنعي، ومنهم من كان منشداً للطميات وآخرون من الرواة وقراء الحديث. تختلف المآتم الرجالية عن مآتم النساء في أسلوب القراءة، كما تختلف الأساليب من بلد لآخر بحسب الثقافة العامة واللهجات الدارجة. فكان للبحرين أسلوبها المتميز في القراءة الحسينية وأطوار تعرف في المحافل الحسينية خارج البحرين بالطور البحراني، والمحبب لدى العراقيين. ثم يأتي دور النساء في المجتمع مكملاً ومؤازراً لدور السيدة زينب بنت الحسين في نشر تراث أهل البيت وتجديد ذكرى مظلومية الإمام الحسين وأهل بيته لماله من بركات ومنزلة عظيمة عند الله.

تتميز القارئة الحسينية (الملاية) بصوت شجي ومؤثر أو كما يقال «فجيع» يُبكي الحاضرات في ذلك المأتم، ويؤجج ذكرى الحادثة ويقوي التحام المستمعات بالمصاب الأليم. كما لديها ملكة خطابية تمكنها من الوقوف وإحياء المراسيم بصورة درامية مؤثرة. تتسم أيضاً بحافظة قوية ومقدرة على قراءة القرآن الكريم.

يذكر أن القارئة الحسينية تصل إلى هذه المرتبة بإيمانها وروحانيتها وتمتعها بصفات تؤهلها إلى هذه الدرجة من السمو الروحي.

جدتي لأمي شيخة بنت محمد حسين العريض هي إحدى الملايات المرموقات، والدها محمد حسين العريض وأمها خديجة بنت الشيخ نصر بن الشيخ علي العصفور والذي كان المسئول المالي لدى حاكم البحرين الشيخ علي بن خليفة آل خليفة عام 1868م.

وفقاً لرغبة والدتها، بدأت شيخة مهنتها كقارئة في المجالس الحسينية ولعبت دوراً كبيراً في هذا المجال. كانت تمتلك صوتاً قوياً (جهورياً)، شجياً جذب العديد من جمهور المستمعة إلى القراءة الحسينية وخصوصاً نساء العجم في فريق المخارقه مثل بيت كازروني، بيت بوشهري، علي خادم، بيت ديواني وبيت علي كاظم بوشهري. كانوا يرتادون المأتم للاستماع لها والبكاء على الإمام وآل بيته، ورغم أنه لم يكن من المستحسن أن يستمع الرجال لصوت المرأة إلا أن بعض الرجال العجم كانوا يجلسون خارج المأتم ويبكون على نعي جدتي شيخة (أم عبدعلي) كما أخبرتني أمي.

هي إنسانية بطبعها غير عنصرية، متسامحة مع الأديان والمذاهب الأخرى. يحترمها الجميع ويثق بمكانتها الروحانية والدينية المتعمقة. يقصدها النساء للتبرك وعمل النذور لهن في الأضرحة المتواجدة خارج المنامة (للتنويه عن القراءة على الأضرحة، أن جدها لوالدها الكبير الشيخ علي بن ملا محمد العريض كان يقرأ على الأضرحة وذكر هذا في كتاب أنوار البدريين، المسعودي) كمسجد النبيه صالح ومسجد أمير زيد. كنّ يجلبن بناتهن عندما يقترب موعد ولادتهن فتقرأ عليهن وتربط بطن الفتاة بملفعها لتخفيف آلام الولادة. كانت تقرأ في العديد من المآتم في فريق المخارقة، منهم مأتم بيت طيبو، مأتم بيت النشمي ومأتم بيت السادة الموجود في الممر المعاكس لمأتم مدن حالياً.

كانت شيخة تقرأ من كتب طيبة بنت حجي محسن وهي صديقة لوالدتها خديجة. فقد كانت طيبة تؤلف الشعر والمرثيات الحسينية وكما ذكرت لي أمي فإنها كانت تكتب على الجدران والأرضيات بالفحم على ضوء القمر، عندما يأتيها الإيحاء الشعري وتتميز كتابتها بأسلوبها المؤثر والمختلف عن العديد من الكتب المستخدمة في المآتم الأخرى. بسبب القراءة والكتابة في الأضواء الخافتة فقدت بنت حجي محسن بصرها وكانت شيخة تساعدها في عملها. لم ترزق طيبة الذرية وقضت طوال حياتها خادمة للحسين وقبل وفاتها قررت أن تورث شيخة الكتب. أعلنت ذلك أمام صديقاتها، ولم تكن شيخة على علم بما يجري. اقترحت إحدى النساء أن يُكتب عقد رسمي يفيد بأن يكون لشيخة الحق في الكتب في حالة وفاة بنت الحجي محسن. ذهبت النساء الثلاث وهم شرف بنت علوي، أم منصور الباش، ومعصومة بيت العليوات إلى الشيخ باقر العصفور لإعلامه بشأن الكتب. كتب الشيخ العقد وكانت زوجته غنية هي الشاهدة الرابعة كما هو الحال في الإسلام امرأتين مقابل رجل واحد، وفقاً لذلك كتب الشيخ العقد وصدق عليه في المحكمة.

ورثت شيخة الكتب من بنت الحجي محسن واستمرت في مسيرتها إلى عام 1972م عندما أصبحت طريحة الفراش لكسر في حوضها وفقدانها البصر. ظلت على تلك الحالة لمدة عشر سنوات حتى وافتها المنية عام 1982 عن عمر يناهز 86 عاماً. علقت والدتي على أمها حيث قالت «عندما أذهب إلى البيبي (كما كان يطلق عليها) أسألها إذا كانت متضايقة من النوم، تبتسم البيبي وتقول: لا مهدية، النبي محمد (ص) معي، الزهراء (ع) معي. فهما يؤنساني وأنا سعيدة بوجودهما، لا يمكن لي أبداً أن أشعر بالملل» لم تشكُ من فقدان البصر أو عدم قدرتها على الحركة. كانت هادئة المزاج مسالمة وراضية بقضاء الله وقدره، ما يعكس إيمانها العميق بالله ورسوله وأهل بيته. بعد وفاتها، أعطت الكتب الموروثة لابنتها مهدية التي واصلت سيرة والدتها.

لقد افتقدنا في زمننا هذا ذلك العنصر الفريد من النساء المؤمنات الصابرات اللاتي كان دأبهن الوحيد هو مناجاة الله ورسوله، أمثال: فاطمة بنت سلمان المؤذن، خيرية أم محمد جواد، خديجة النوخذة، شرف بنت سيد ناصر المقابي، خديجة بنت شيخ نصر العصفور وكثيرات. فقد كانت حياتهن مثال الصدق والأمانة والطهر والعفة. تغير كل شيء حتى المأتم، فقد أصبح مكاناً يجتمع فيه النساء لا للبكاء والاتعاظ كما في السابق، أدخلت الماديات والمحسوبية وزخارف الدنيا إلى أماكن العبادة والدعاء، فكما تغيرت نفوس البشر، ذهبت تلك القدسية المعهودة في تلك المجالس التي واكبت جداتنا في الماضي. رحم الله أسماء لمعت وأضاءت، بكت وأبكت ورحلت إلى خالقها وهي شعاع من نور.

صحيفة الوسط البحرينية – العدد 4620 – السبت 02 مايو 2015م

[10]

المرأة البحرينية بين الماضي والحاضر

 

 

اختلف كل شيء في زمننا المعاصر وأصبح الإنسان منا يعيش حياة سريعة مليئة بالحركة والتقنيات الحديثة. أصبحنا نستشعر بالعولمة بكل تفاصيلها وبدأنا ننظر إلى الماضي ومعالمه بنظرة بعيدة وتاريخية. من خلال دراسة تحليلية بين المرأة قبل اكتشاف النفط والمرأة في الوقت الحاضر اتضحت لنا فروقات كثيرة بين نموذجين تباينت أساليبهما الحياتية والثقافية والاقتصادية.

لو عادت جدتي، خديجة بنت شيخ نصر العصفور المتوفية العام 1925م (كان والدها المسئول عن الشئون المالية للشيخ علي بن خليفة آل خليفة، حاكم البحرين العام 1868م، وقد تعلمت الكتابة والحساب على يد والدها، وخديجة هي والدة منصور محمد حسين العريض) وشاهدت حياتنا الحالية، فإنني أعتقد بأنها سوف تتوه لما ستراه من ناطحات السحاب والطرق السريعة الواسعة، والسيارات والطائرات. ربما تبحث عن البحر الذي كانت ترتاده، أو عيون الماء التي كانت تغسل ثيابها فيها، أو عن المزارع التي كانت تقضي أيام الصيف فيها، والحمير التي كانت تنقل الأدوات من مكان إلى آخر كوسيلة مواصلات. ربما أرادت أن تقضي وقتاً هادئاً في إحدى الداليات وسط النخيل والمحاصيل الزراعية الكثيرة الممتدة في الحزام الأخضر. سوف تُدهش حين ترى حفيداتها يسقن السيارات ولا يلبسن العباءة التقليدية، يخرجن من المنزل لوحدهن ويذهبن إلى العمل، ويعملن مع الذكور. ربما لا تعجبها فكرة أن تضع حفيدتها مساحيق الماكياج على وجهها أو تسافر لوحدها دون محرم، مستقلة مادياً وربما تعيش بمفردها في بعض الأحيان، لديها جهاز جوال في حقيبتها تحمله معها طوال الوقت وتتحدث بواسطته مع من تريد في أي وقت وفي جميع أنحاء العالم، وتستطيع أن تتواصل من خلال الانترنت مع من تريد في مختلف الشبكات الاجتماعية مثل الفيس بوك والتويتر، أمور لم تعرفها وقتها.

قد يكون هذا التحول مشابهاً لما حصل في العالم بأسره، ولكن منطقة الخليج وعلى وجه الخصوص البحرين مرت بتجربة غيّرت كل مناحي الحياة فيها بعد طفرة النفط. تختلف دول الخليج عن باقي دول العالم بتكوينة سكانها المحافظين، بأكثرية مسلمة تصل إلى 90 في المئة الذين يتعايشون بالقرب من بعضهم البعض في القرى والمدن. تعيش الأسر في عوائل ممتدة ويوجد فصل بين الرجال والنساء. وقد تعمل المرأة القروية في الحقول مع زوجها ولكنها لا تخرج من نطاق قريتها والقليل منهن يخرجن من مناطقهن.

إذا أردنا أن نتحدث عن بدء الحركة النهضوية في البحرين فلابد أن نشير إلى بعثة الارسالية الاميركية التي بدأت عملها التطوعي في أواخر القرن التاسع عشر الميلادي. يقول الأستاذ عبدالكريم العريض في كتابه (المنامة خلال خمسة قرون) «كانت بداية القرن العشرين بالنسبة لمدينة المنامة والتي مضت عليها أربعة قرون تتداولها الأيدي منذ أن كانت ميناء صغيرا إلى أن أصبحت مدينة يقطنها الغرباء. كانت تلك المدينة الصغيرة قابعة في مكانها وكانت البعثة التبشيرية الاميركية أولى المؤسسات التي بدأت أعمالها في نهاية القرن الثامن عشر الميلادي وكان الرجل الذي جاء من أقصى الأرض لكي يقيم أول مستشفى عصري في البحرين عرفه أهالي البحرين بضيف الله (صموئيل زويمر) أول مبشر تطأ قدمه البحرين. جاء ليبتاع قطعة ارض ليبني عليها أول مستشفى ومدرسة وكنيسة ومنزلاً لسكن البعثة، وكان ذلك في العام 1898م وأطلق على ذلك المستشفى مستشفى مايسون التذكاري».

من هنا بدأت الارسالية الاميركية عملها في توفير الرعاية الصحية والتعليمية لأبناء وبنات البحرين وساعد ذلك في رفع مستوى الوعي الصحي والتعليمي في البحرين. وكما قيل عنهم، فإن الارسالية كانت بالنسبة للكثيرين بمثابة ملاك الرحمة المرسل من السماء الذي داوى جراح الناس وانتشلهم من المرض والضياع.

ثم بدأ التعليم النظامي يأخذ مكانه في البحرين بافتتاح أول مدرسة للبنين في العام 1919م وأول مدرسة للبنات في العام 1928م وفي غضون أحداث الاستعمار والوجود الأجنبي للمنطقة بدأت الحركة الثقافية في البحرين بإنشاء أول نادٍ ثقافي للرجال وهو نادي «أوال» في العام 1913م وتلاه «النادي الأدبي» في المحرق.

يقول الباحث البحريني علي حسن تقي في دراسته عن تغير الحالة الاجتماعية للمرأة البحرينية The Changing Status of Women بأنه «ومنذ القرن التاسع عشر الميلادي كان المجتمع البحريني متقدماً ومنفتحاً على التأثيرات الخارجية بخلاف جيرانه، كون البحرين جزيرة تعبر من خلالها الثقافات المختلفة. كانت البحرين غنية اقتصادياً باعتبارها مركزاً لصيد اللؤلؤ في تلك الفترة. حجمها الصغير وموقعها الجغرافي وضعاها في موقع أكثر للتأثر بالعالم الخارجي. كان مجتمع البحرين أكثر استقراراً ولم يكن البدو ضمن التركيبة السكانية فيه مثل باقي الدول المجاورة، وجل سكانه هم من الشيعة الذين يقطنون القرى والمدن أما التجار السنة فيعيشون في المدن، ولكونها دولة صغيرة كان التواصل بين حياة القرية وحياة المدينة أكثر تمازجاً».

يضيف تقي بأنه يعتقد بأن أول ثورة في حياة المرأة البحرينية كانت في العام 1928م عندما بدأ التعليم النظامي بافتتاح أول مدرسة للبنات وهي مدرسة خديجة الكبرى، وأخذت العائلات بعض الوقت لكي تستوعب تعليم بناتها، ولكن سرعان ما أصبح تعليم الفتيات شيئاً ضرورياً عندما أصبحت الحاجة ملحّة إلى مدرسات للتدريس في مدارس البنات. في البداية كانت المدرسات يأتين من لبنان وسورية، وفي خضم التوسع في التعليم فُتحت فصول لإعداد المدرسات في البحرين. أخذت الفتاة تتطلع للدراسة الجامعية في الجامعات خارج نطاق البحرين. في الخمسينيات من القرن الماضي بعثت الحكومة عدداً من الطالبات اللاتي أحرزن النتائج العليا إلى الجامعة الأميركية في بيروت لإكمال دراستهن وخلال فترة بقائهن في بيروت خلعن الحجاب ورجعن وهن سافرات الشعر رافضات أن يلبسنه ثانية. كما بعثت العديد من الأسر الميسورة بناتها إلى الجامعات الانجليزية والأميركية. أما الثورة الثالثة التي ساهمت في تطور المرأة كما ذكر تقي «كان نمو وسائل الإعلام عندما افتتحت أول سينما في العام 1937م وكانت تلك السينما تقدم عروضاً خاصة للمرأة ثلاثة أيام في الأسبوع. توفرت لهن الكتب والمجلات من كل أنحاء العالم واقتنى الناس المذياع وأجهزة التلفاز ما شكّل نواة جديدة للانفتاح على العالم.

في منتصف الستينيات أخذت الحكومة تعمل على حركات التحرر وافتتحت الكثير من النوادي النسائية والتي كانت تدار في بداية الأمر في السر».

أعطيت المرأة الحق في قيادة السيارة ومنذ الخمسينيات كان الرجل يرافق زوجته في السيارة وبعد ذلك أصبحت المرأة تقود السيارة بمفردها فكان ذلك بمثابة استقلاليه للمرأة البحرينية.

تدرجت المرأة في العمل من كونها مدرسه فقط إلى أن افتتح مجمع السلمانية الطبي في العام 1958م وأصبحت الحكومة بحاجة إلى ممرضات في أواسط الستينيات فافتتحت أول مدرسة للتمريض في أواخر الستينيات. تابع ذلك افتتاح شركة النفط بابكو إلى معهد لدورات السكرتارية لتتيح للمرأة مجالات عمل جديدة.

عند نشوب حرب 1967م بين العرب وإسرائيل قرر الأميركان تحويل مقر عملهم إلى دول الخليج عامة وفي البحرين خاصة، وبما ان البحرينيين هم الأكثر ثقافة وتعليما بين أبناء دول الخليج فقد وفر ذلك فرص عمل جديدة للجنسين في أعمال البنوك والشركات الاجنبية التي قدمت إلى البحرين في أوائل السبعينيات.

من ذلك المنطلق بدأت المرأة البحرينية تأخذ طريقها نحو التعليم وبرزت أسماء في الحقل التعليمي والتربوي ومن ثم العمل التطوعي وأخذت المرأة تتولى المناصب إلى أن وصلت لمنصب الوزيرة والسفيرة، فكانت أول وكيلة للإعلام هي هالة العمران ابنة لأول مدير للمعارف في البحرين، أحمد العمران.

ومن أوائل النساء اللاتي أسسن نادياً رسمياً للسيدات في العام 1952م، الشيخة نيلة بنت خالد آل خليفة مع مجموعة من النساء من جنسيات مختلفة وهنّ الشيخة نورة بنت عبدالله بن عيسى آل خليفة، والشيخة موزة بنت محمد آل خليفة، والسيدة مارجوري بليغريف (حرم مستشار حكومة البحرين)، والسيدة عائشه يتيم، والسيدة وفيقة ناير، والسيدة سلوى العمران، والسيدة حياة القصيبي، والسيدة عائشة (حرم الوجيه يوسف المؤيد)، والسيدة شيخة فخرو، والسيدة محفوظة الزياني، والسيدة نعيمة القصيبي، والسيدة عصمت آل شرف، والسيدة فاطمة آل شرف، والسيدة سكينة القحطاني، والسيدة فاطمة الفايز. من هنا بدأت المرأة ممارسة نشاطها التطوعي وتبلور هذا المشروع إلى تأسيس الكثير من الجمعيات النسائية التي ساهمت بدورها في ارتقاء مستوى المرأة الثقافي والاجتماعي.

يُذكر أن أول معلمة ومديرة مدرسة كانت السيدة سكينة القحطاني، وأول ممرضة وقابلة بحرينية تخرجت في العام 1941م هي فاطمة بنت على بن إبراهيم الزياني، وكانت صديقة العوضي أول طبية تخرجت في العام 1969م، وبعدها بأشهر تخرجت غالية دويغر والتحقت بمهنة الطب، وأول مهندسة هي بدرية المرزوق التي تخرجت في العام 1977م، وأول محامية هي المرحومة فاطمة الدلال. ومن أوائل النساء اللاتي نلن شهادة الدكتوراة هن الدكتورة ليلى دويغر التي حصلت على الدكتوراه في العام 1978م، والدكتورة صفية دويغر التي حصلت على شهادة الدكتوراه في التربية في العام 1985م من جامعه تكساس.

لقد أصبحت المرأة في وقتنا الحاضر أكثر شجاعة في الإدلاء برأيها وباستطاعتنا أن نشيد بالمرأة البحرينية لجدارتها وقوتها ومهارتها في شتى ميادين الحياة رغم الثمن الباهظ الذي دفعته بحق أسرتها وأولادها، فقد كان من الصعب عليها في أحيان كثيرة التوفيق بين عملها خارج البيت لأوقات طويلة وبين تربية أبنائها. أخذت المرأة توازن بين عالم أسرتها وعالم أحلامها وتحقيق ذاتها ومازالت تعيش هاجس الشعور بالذنب، فالمرأة كائن حي خلق لكي يكون حنوناً وعطوفاً لا أن يكون مستهلَكاً ومثقَلاً بأعمال الرجال. وللمرأة الحق في أن تقرر مصيرها بنفسها فقد سنحت لها الظروف كي تختار ما تشاء.

 

صحيفة الوسط البحرينية – العدد 4627 – السبت 09 مايو 2015م

أضف تعليق

مرايا التراث

في تاريخ وتراث البحرين