Monthly Archives: 25 نوفمبر, 2014

فاران: قدسية الاسم والمكان

main_fdd-2

بقلم حسين محمد حسين 

 

في فترة النهضة العلمية في البحرين، خلال القرون الهجرية الأربعة من القرن العاشر حتى الثالث عشر الهجري (من نهاية القرن الخامس عشر حتى نهاية القرن الثامن عشر)، نشطت المدارس العلمية في البحرين، والتي كانت تقوم بتدريس العلوم الشرعية والعقلية على حد سواء، وتصدت لمجموعة أدوار وعمليات ثقافية من تعليم وتدريس ونسخ وكتابة حواشي وتأليف كتب أو مصنفات، ولا يمكن أن تكون مدرسة مشهورة دون أن تتصدى لهذه المهام حتى وإنْ لم نملك وثائق من مصنفات ومخطوطات وغيرها. ومن مهمة هذه المدرسة، أيضاً، إعداد كوادر علمية وتخريج علماء بتخصصات شرعية مختلفة تعينهم على إدارة المجتمع البحراني وتنميته روحياً وثقافياً واجتماعياً، فالهدف العلمي بروح عبادية هي سمة التعليم لدى علماء البحرين وفقهائها (مدن، غير منشور، بدون تاريخ).

إلا أن العديد من هذه المدارس، والفقهاء القائمين عليها، لم يتم توثيقها؛ فقد «تفاوتت حظوظ القرى البحرانية في تدوين المادة التاريخية عن نشاطاتها الثقافية في الفترة المذكورة، وقد وصلتنا نحن المتأخرون مادة واضحة، بل وشديدة الوضوح عن بعضها، وما يزال تراث بعضها غامضاً ومنقوصاً بدرجة كبيرة، ولعل وراء هذه الحالة أسباب يأتي في صدارتها مدى الجهد الذي بذله العلماء وبخاصة علماء كل قرية على حدة في سعيهم لتدوين نشاطها الثقافي، وكذلك مدى نجاح العلماء في تحقيق شهرة داخل وخارج بلادنا البحرين تساعدهم على الوصول للناس، فمنهم من نجح بينما أخفق آخرون، وهذا ترك أثراً في حجم انتشار تراثهم الثقافي» (مدن، غير منشور، بدون تاريخ).

من هذه المدارس المنسية مدارس قرية فاران التي تأسست واندثرت دون أن يتم توثيقها من قبل المتقدمين ولم تذكر إلا شذرات بسيطة عنها في كتب المتأخرين. وسوف نحاول هنا لملمة تلك الشذرات التي ذكرت حول فاران.

حول مسمى فاران

قرية فاران هي إحدى القرى التي شاع ذكرها قديماً في البحرين، وتقع في الزاوية الشمالية الغربية لجزيرة البحرين الكبرى، ولها ساحل، ربما كان ميناءً مهماً في الحقب القديمة. وقد هجرها أهلها وذابت في قريتي القرية والجنبية. واسم فاران اسم له قدسية قديمة؛ فقد ذكر «جبل فـاران» في دعاء السمات الذي يقرأه الشيعة الإمامية، وهو جبل كلَّم الله فيه سيدنا موسى عليه الصلاة والسلام. والتسميتان قرية فاران وبرية فاران معروفة في الكتب المقدسة وبالخصوص في التراث الديني العبري. فأما قرية فاران فهي في سيناء، أما برية فاران التي بها جبل فاران فقد أختلف في تحديد موضعها بين الكتاب المسلمين والباحثين في جغرافيا الكتب المقدسة، يقول علي زوين في دراسته «شرح المشكل من الألفاظ في دعاء السمات»:

«ذكر الحميري أن جبل فاران يقع في الحجاز. وهي سلسلة منها جبل قريب من مكة يدعى (جبل فاران)، وذكر ابن طاووس أن الرسول (ص) كان يناجي الله جل جلاله عليه. وما ورد في الكتاب المقدس خلاف ذلك إذ تطلق كلمة (فاران) على الصحراء التي جاء فيها بنو إسرائيل (صحراء التيه). يحدها من الشمال صحراء الملح وأرض كنعان، ومن الشرق وادي عربة الذي يفصل بين فاران وجبال موآب وخليج العقبة، ومن الجنوب دبة الرملة التي تفصل بينها وبين جبال سيناء، ومن الغرب صحراء الشام التي تفصل بينها وبين خليج السويس ومصر» (زوين 2009).

حول ذكر قرية فاران

أقدم ذكر لقرية فاران جاء في ديوان أبي البحر الخطي (توفي العام 1618م). وقد عاش الخطي مجاوراً لهذه المنطقة؛ فقد عاش في منطقة سار التل، بالقرب من قرية سار التي كان يسكن فيها صديقه الغنوي، الحسن بن محمد بن ناصر بن علي بن غنية الهذلي، وهو أديب وكاتب، وهو جامع ديوان الخطي (العوامي 2005، ص 143). وقد تجول الخطي في فاران والجنبية، وقد ذكر كلتا القريتين في ديوانه. قال الخطي في ذكر فاران:

ما كنت بالمبتاع دار سرورها

يوماً بفاران ولا بمقابا

كذلك، ذكر قرية فاران الشيخ عبد الله العرب الجمري (المتوفي العام 1921م) وذلك في تعليقه في إحدى حواشي كتاب «أنوار البدرين» وذلك في أسفل إحدى الصفحات التي جاء فيها ذكر الشيخ حسن الدمستاني فعلق الشيخ عبدالله العرب أن الدمستاني كان يروي «عن الشيخ محمد الفاراني، نسبة لقرية من قرى البحرين من الجانب الغربي، وآثار مدرسته باقية إلى الآن، ولم أقف له على ترجمة» (مدن، غير منشور، بدون تاريخ).

وممن ذكر قرية فاران من المتأخرين الشيخ إبراهيم المبارك في كتابه «حاضر البحرين»، وجاء فيه: «فاران كهامان، وهي اليوم خراب وتكتنفها نخيل ومزارع، قيل أن أصل سكانها من بني هاجر سكنوا فاران ثم الجنبية والقريَّة مصغر قرية» (المبارك 2004، ص 45). وقد أعتبر المبارك فاران بمثابة البلدة التي تتكون من أكثر من قرية؛ حيث يرى المبارك أن قرية القُرية والجنبية ما هي إلا قرى من بلدة فاران (المبارك 2004، ص34 و45).

علماء ومدارس فاران

ذكر الشيخ علي العصفور في كتابه «بعض فقهاء البحرين» أن فاران، وكذلك، القريَّة والجنبية وبني جمرة كانت «من البقاع المقدسة التي حوت من العلماء ما يعلم الله بنسبة عددهم، ويحكي أهل القريَّة أن أكثر من ثلاثمئة عالم قد قبروا في مقبرة الدرمكية، منهم من مات شهيداً لسبب القلاقل والهزَّات التي هزّت البلاد في زمانهم، ومنهم من مات بانقضاء الأجل» (العصفور 1993، ج3: ص 135).

ومن آثار المدارس التي لازالت باقية، آثار مدرسة الشيخ محمد الفاراني، الذي تتلمذ على يديه الشيخ حسن الدمستاني وغيره من علماء القرن الحادي عشر الهجري (القرن السابع عشر الميلادي). وآثار مدرسته توجد حالياً في مقبرة فاران بالقرب من قبره، المعروف حالياً بقبر العبد الصالح، وقد بني عليه ضريح جديد. كذلك، مما تبقى من أضرحة فاران قبر الشيخ علي بن الشيخ سليمان الجمري. وبحسب تحقيق الشيخ عبدالأمير الجمري في كتابه «ملامح تاريخية عن بني جمرة»، فإن الشيخ سليمان الجمري هذا هو الجد الأكبر الذي تنتمي إليه إحدى أكبر العائلات في بني جمرة، والتي ينتمي لها الشيخ عبدالأمير الجمري والملا عطية الجمري. والشيخ علي ليس ابنه المباشر بل هو أحد أحفاده، عاش في القرن التاسع عشر الميلادي، وقد كان يمتلك نخلاً في الجنبية، وقد وجد مقتولاً فيها، ودفن بالقرب من مقبرة فاران وبني عليه ضريح لا زال باقياً حتى يومنا هذا.

ومما تبقى من مدارس فاران، مدرسة تنسب للشيخ الفاراني تسمى مدرسة الإمام الحسن (ع)، وتوجد في منطقة القُرية، على شارع الجنبية، وهي مدفونة تحت تل، وقد عثر فيها على آثار تعود للقرن التاسع الميلادي (Larsen 1983, p. 305). وقد بني بالقرب منها جامع كبير لمنطقة القرية، سمي باسم المدرسة، «مسجد الإمام الحسن (ع)».

إن قيام مدرسة علمية في فاران، وبروز حركة وجود فعلي لبعض علمائها، وظهور أدوار وعمليات ثقافية في وسطها الداخلي، ومدى تدرج هذه الأدوار في تحقيق مستويات علمية وتتابع خطواتها العلمية المتصلة، تدل على وجود خطوات متعاقبة في التكوين والمتابعة بحيث تؤسس فيها كل خطوة لاحقة على الخطوات السابقة. فمدارس فاران هي امتداد لمدارس أقدم منها. ربما لا يمكننا الاستدلال بعلم الآثار حول قدم هذه المدارس في فاران، إلا أن هناك آثار لأضرحة علماء تعود للقرن الثاني عشر الميلادي توجد في المناطق المجاورة لها، وهذا ما سنوضحه في الحلقة القادمة.

صحيفة الوسط البحرينية – العدد 4459 – السبت 22 نوفمبر 2014م

فاران وجاراتها: بناء نموذج الاستيطان

تصوير وسام السبع

تصوير وسام السبع

بقلم حسين محمد حسين 

في الحلقات السابقة ناقشنا بصورة مفصلة نموذج الاستيطان القديم في أحد أهم المناطق في جزيرة البحرين الكبرى، والتي أطلقنا عليه اسم «جدحفص وجاراتها». وسبق أن ذكرنا أن هذه المنطقة تمثل أقدم مواطن الاستيطان على جزيرة أوال وتضم واحداً من أهم موانئها التاريخية الذي يمثله ساحل مني ومروزان التاريخي. إلا أن هذه المنطقة لم تكن الوحيدة التي ظهرت في الحقبة الإسلامية المبكرة (630م – 1055م)، فقد ظهرت معها أربع مناطق أخرى، وذلك بحسب الآثار التي تم اكتشافها في تلك المناطق (انظر الخارطة المرفقة). ولكل مجموعة ساحل خاص بها، وهذه المجموعات تتمركز حول مناطق أساسية لها شهرة تاريخية، ثلاث منها بالقرب من سواحل مهمة ربما كانت موانئ تاريخية، وهذه المناطق هي: باربار وبالقرب منها ساحل مهم يمتد من جدالحاج حتى الدراز، وسار، وساحلها هو ساحل فاران التاريخية، وكرزكان وهي بالقرب من ساحل مهم يمتد من كرزكان حتى داركليب. بالإضافة إلى عالي التي عليها أن تعتمد إما على سار أو كرزكان للحصول على منافذ بحرية.

جميع تلك المناطق كانت مراكز انتشرت منها بقية القرى بحسب نموذج معين، وحتى لا نكرر هذا النموذج في كل مرة نتناول فيه إحدى تلك المجموعات، سنوضح هذا النموذج هنا بصورة عامة بحسب الحقب، ونترك خصوصيات كل منطقة نتناولها بالتفصيل.

حقبة الدولة الأموية (662م – 750م)

اتسمت هذه الحقبة بظهور العديد من حركات التمرد التي ناقشناها بالتفصيل في فصول سابقة. ويوجد في البحرين مناطق محدودة للاستيطان في هذه الحقبة، فيوجد موقع في جزيرة المحرق، وبعض المواقع المتجاورة في جزيرة البحرين والتي عثر فيها على آثار تعود لتلك الحقبة وهي: جدحفص، وجبلة حبشي وبالقرب من مسجد الخميس، وفي موقع سوق الخميس، وفي أقصى جنوب البرهامة (البجوية قديماً) وشمال مقبرة أبي عنبرة. ومن المرجح أن هذه المناطق كانت تستفيد من ضاحية ساحلية مهمة، هي ساحل مني ومروزان الذي ربما كان أهم موانئ تلك الحقبة. وفيما يخص ساحل البلاد القديم، فللأسف فإن نتائج البعثة البريطانية في عدد من مناطق البلاد القديم وما حولها تشير إلى أن الآثار القديمة هي باتجاه الشمال، أي خارج حدود البلاد القديم. أما باتجاه الجنوب (أي باتجاه ساحل البلاد) فالآثار التي عُثر عليها تصنف ضمن الآثار الإسلامية متأخرة (Insoll 2005, pp. 19 – 51).

حقبة الدولة العباسية المبكرة (750م – 900م)

أفضل الحقب العباسية التي ازدهرت فيها البحرين هي الحقبة التي تلت انتهاء جميع حركات التمرد في البحرين، والتوصل لاتفاق باستقلال البحرين بصورة جزئية، وهي الحقبة ما بين الأعوام 810م – 929م، وتشمل هذه الحقبة بروز مدينة سامراء كعاصمة للدولة العباسية (836م – 892م)؛ وهذا ما يفسر انتشار الفخار السامرائي في المواقع الأثرية الإسلامية المبكرة في البحرين. وقد ظهرت، في جزيرة البحرين الكبرى، مناطق استيطان جديدة، بالإضافة للمواقع السالفة الذكر التي بقيت مستمرة. هذه المواقع هي: باربار وفاران القديمة وسار وعالي وكرزكان. ويلاحظ أن ثلاث من هذه المناطق ربما كانت تمثل ثلاثة موانئ جديدة استفادت منها البحرين في تلك الحقبة، وهي باربار وفاران وكرزكان. وقد ساهمت هذه الموانئ في زيادة الحركة التجارية في البحرين؛ حيث إن الآثار التي عثر عليها تمثل مدى ثراء بعض هذه المناطق، كالمدينة المسورة في عالي والمدينة الأخرى في باربار وهو ما سنناقشه بالتفصيل في فصول لاحقة.

حقبة سيطرة القرامطة (929م – 1064م)

تقدر هذه الحقبة بقرابة 140 عاماً، وتمتد بين الأعوام 929م – 1064م. هذا، ويختلف تاريخ بدء الحقبة القرمطية في أوال عن تاريخ بدايتها في البحرين الكبرى؛ حيث إن القرامطة سيطروا على البحرين الكبرى في قرابة العام 900م، وتمّ ضم جزيرة أوال إلى حكمهم في قرابة العام 929م (الجنبي 2012، ج4، ص 2257 – 2258). والمرجح أن القيادة القرمطية تمركزت في أقدم مواطن الاستيطان في البحرين، أي في محيط البلاد القديم وجدحفص. وتشير نتائج التنقيبات الآثارية في موقع سوق الخميس إلى وجود هجرة جماعية من هذه المناطق في حقبة سيطرة القرامطة (Carter 2005)، وبالتزامن مع تاريخ هذه الهجرة، يلاحظ ظهور مواقع استيطان جديدة بعيدة عن مركز القرامطة لكنها قريبة من مواقع الاستيطان الأخرى. هذه المواقع الجديدة تقع في الدراز، وفي سار وفي صدد.

بمعنى آخر، أنه في حقبة سيطرة القرامطة تقلصت أهمية مركز الاستيطان القديم في محيط البلاد القديم وجدحفص، وبدأت مواقع الاستيطان الأخرى تزداد أهمية وتتوسع، ربما لبعدها عن الإدارة القرمطية.

حقبة الدولة العيونية (1077 – 1239م)

بعد القضاء على القرامطة من كامل بلاد البحرين وسيطرة الدولة العيونية على السلطة السياسية (العام 1077 م)، بدأت حقبة جديدة في جزيرة أوال، حيث الاستقرار السياسي والحرية المذهبية والانفتاح التجاري وإعادة بناء البنية التحتية للجزيرة. وقد أسس العيونيون على جزيرة أوال، في القرن الثاني عشر، مدينة ومركز تجاري في منطقة قلعة البحرين، وبدأت بإعادة إعمار جزيرة أوال بصورة عامة، فبدأت بصيانة العيون الطبيعية في البحرين وقنوات الري التحت أرضية أي نظام الثقب والأفلاج؛ حيث تؤكد الدراسات الآثارية على أن نظام الثقب والأفلاج تم إعادة العمل به في هذه الحقبة، على رغم أنه لا يعرف بالتحديد متى تم بناؤها (Larsen 1983, pp. 87 – 88). وبحسب هذه المعطيات فإن العديد من القرى تم إعمارها أو إعادة إعمارها بدءاً من هذه الحقبة.

ظهور أكثر من 300 قرية

بعد انتهاء الحقبة العيونية، سيطرت عدد من الدويلات على السلطة السياسية في البحرين، وقد ورثت تلك الدويلات المدينة والمركز التجاري، وكذلك، النظام التجاري الذي أسسته الدولة العيونية. وتابعت هذه الدويلات في تطوير ذلك النظام التجاري ما أدى لمزيد من الازدهار. وقد ظهرت العديد من القرى التي انتشرت في البحرين من شمالها حتى أقصى جنوبها، بما في ذلك الجزر المحيطة، كالمحرق وسترة والنبيه صالح (Larsen 1983, figure 7 and appendix 2). ولا يعلم بالتحديد عدد القرى التي ظهرت، إلا أن أقل رواية ذكرها الجغرافيين المبكرين كانت رواية أبوالفداء (1274م – 1331م) حيث قدر عدد القرى بقرابة 300 قرية وذلك في كتابه (تقويم البلدان). ويقدر Larsen عدد سكان البحرين، في فترة حياة أبوالفداء، أنها تتراوح ما بين 19125 و45900 (متوسط 32500 تقريباً) (Larsen 1983, p.196).

من خلال هذه الأرقام، لا تبدو رواية أبوالفداء مستحيلة؛ فهناك عدد من الدراسات التي تخصصت في دراسة الديموغرافية في العصور الوسطى Medieval Demographics. غير أن هذه الدراسات لم تجرَ على منطقة الخليج العربي، لكنها أجريت في بيئات زراعية أخرى. تتضمن هذه الدراسات مقارنات بحجم سكان القرى في تلك الحقبة في مناطق مختلفة، ويتضح من المقارنة أنها كانت قرى صغيرة يتراوح سكانها ما بين 20 – 1000 فرد، وفي الغالب ما بين 50 – 300 فرد. أما المدينة في تلك الحقبة فيتراوح سكانها ما بين 1000 – 8000 فرد (S. J. Ross 1993 – 2014).

لو افترضنا أن هذه المقارنات تتفق مع قرى البحرين في العصور الوسطى، فيمكننا بذلك افتراض وجود مدينة مركزية أو ربما مدينتين يتراوح سكان كل مدينة بين 1000 – 2000 فرد، مع وجود 300 قرية (أو أكثر) يتراوح عدد سكانها ما بين 50 – 200 فرد. وهذا يتفق مع أعداد سكان البحرين في تلك الحقبة والتي استنتجها Larsen. بالطبع، هذه مجرد نظرية تحتاج إلى تطوير بحسب إعادة تحليل الدراسات المتخصصة، وهو ما سنفرد له حلقات منفردة.

هذا ملخص نموذج الاستيطان لقرى البحرين التي بدأت تتكون في الحقبة الإسلامية المبكرة متمثلة في خمسة مراكز أساسية، تناولنا منها مركز واحد هو جدحفص وجاراتها وفي الحلقات القادمة سنتناول تفصيل مركز آخر هو «فاران وجاراتها».

صحيفة الوسط البحرينية – العدد 4452 – السبت 15 نوفمبر 2014م

المصلى وطشان: تغير الحدود الداخلية للقرى

بقلم حسين محمد حسين 

لقد تغيّرت كثيراً صورة القرى وطريقة توزيعها في البحرين قديماً، ومسميات بعضها كذلك، عمّا هي عليه في الوضع؛ ففي السابق، لم يكن هناك تحديد لحدود القرى بصورة رسمية، فلم تكن هناك حاجة لها. ولكن مع تطور الأنظمة في البحرين، ظهرت حاجة ماسّة لتحديد حدود القرى واعتماد تسمياتها بصورة رسمية، وتقسيمها إلى مجمعات، وتخطيطها من الداخل، وتحديد طرقها وشوارعها وعنوان كل منزل فيها؛ وقد أدى ذلك لتغير الصورة القديمة للقرى. فهناك قرى تقلصت مساحتها وتحوّلت لأحياء ضمن قرية أخرى، رغم شهرتها التاريخية، على سبيل المثال، منطقتا مني ومروزان، وهما منطقتان مشهورتان تاريخياً منذ مئات السنين، فقدتا ودمجتا تحت مسمى واحد هو السنابس.

أضف إلى ذلك ظهور جماعات تنادي بالتبعية التاريخية لمناطق معينة، على سبيل المثال، هناك من يرى أن مناطق مثل عين الدار وطشان والمصلى وجبلة حبشي كلها كانت فروع، بل أحياء، من منطقة جدحفص التاريخية. وبالفعل دمجت عين الدار ضمن جدحفص بصورة رسمية. وكذلك الحال مع البلاد القديم، حيث يرى العديد أن حدودها التاريخية القديمة كانت تشمل مساحة أكبر مما هي عليه الآن. لقد أدى ظهور الترسيم الجديد للقرى لنشوء البلبلة والنقاشات العقيمة، وقد تطور بعضها إلى مطالبات بإعادة ترسيم حدود مناطق معينة. إن المتتبع لمثل هذه الأخبار يرى بوضوح إلى أي مدى يتشبث العديد، من الأفراد والكتاب، بروايات تاريخية توضح سيادة منطقة ما على منطقة أخرى، وذلك بحجة أن المنطقة الثانية امتداد طبيعي للمنطقة الأولى. وبما أننا تناولنا في الحلقات السابقة تفاصيل منطقة جدحفص وما حولها من القرى فسنقدم مثال يرتبط بهذه المنطقة، وهو مرتبط بقريتي المصلى وطشان.

الحدود القديمة لقرية المصلى

تعتبر قرية المصلى من القرى القديمة التي شاع صيتها منذ القدم، وقد كانت حدودها التاريخية تبدأ من قرية السهلة غرباً وتمتد حتى حدود مقبرة أبي عنبرة شرقاً، أي غرب قرية خريان (الصالحية حالياً) وجنوب قرية البجوية. وما يؤكد ذلك ما جاء في خارطة البحرين الرسمية للعام 1904م، حيث حدد موقع قرية المصلى غرب مقبرة أبي عنبرة وجنوب البجوية وعين الدار. وكذلك، وصف التاجر إلى قرية المصلى في كتابه «عقد اللآل»؛ حيث جاء فيه أن قرية المصلى تقع جنوب البجوية وعين الدار (التاجر 1994، ص34).

وأقدم ذكر لقرية المصلى كان في نهاية القرن السادس عشر الميلادي وذلك في قصيدة للشيخ البهائي يرثي بها والده الشيخ حسين بن عبدالصمد، الذي سكن قرية المصلى وتوفي فيها وذلك في قرابة العام 1576م. وقد ورد ذكر قرية المصلى في تلك القصيدة:

يا ثاوياً بالمصلى من قرى هجر

كسيت من حلل الرضوان أرضاها

وثاني أقدم ذكر لقرية المصلى ورد في قصيدة للشاعر أبي البحر الخطي والذي قالها في رثاء جماعة من الأقرباء توفوا في فترة متقاربة ودفنوا في مقبرة أبي عنبرة، فأدرج الجميع في قصيدة واحدة أنشدها في السابع من محرم من العام (1021هـ/1612م)، ويقول فيها:

سَقَى الأجداثَ شَرقيَّ (المُصَلَّى)

وإن رُفِعَتْ إلى جنَّاتِ خُلدِ

من قول الخطي، يستنتج أن مقبرة أبي عنبرة توجد في شرق المصلى. وهذا يشير إلى أن قرية المصلى كانت تمر شمال مسجد الخميس وتصل لمقبرة أبي عنبرة، كما سبق أن ذكرنا سالفاً.

المصلى بين طشان وجدحفص

لقد تغيرت الصورة القديمة، فقد تغير اسم قرية خريان إلى الصالحية وتقلصت مساحتها، أما البجوية فقد زادت مساحتها واختفى اسمها وظهر اسم البرهامة، وقد أدخلت مقبرة أبي عنبرة ضمن حدود البرهامة في الوقت الراهن. أما قرية المصلى فقد تقلصت مساحتها؛ فالجزء الشرقي من القرية المحاذي لمقبرة أبي عنبرة تحول إلى قرية مستقلة هي قرية طشان، واتسعت مساحة جدحفص على حساب مساحة قرية المصلى، وخصوصاً بعد أن تم تغيير عناوين المشروع الإسكاني، الذي أُطلق عليه مسمى إسكان جدحفص من قرية المصلى إلى جدحفص. وقد أقيم الإسكان على جزء من قرية المصلى وجزء من جدحفص، وقد نشب خصام على ذلك، وتم إثارة الزعم القديم أن المصلى مجرد حي من أحياء جدحفص (صحيفة «الوسط» 10 سبتمبر 2013).

أما طشان فقد كانت ضاحية من ضواحي البلاد القديم، وبحسب خارطة البحرين الرسمية للعام 1904م، فإن قرية طشان تقع جنوب مسجد الخميس وشمال عين أبو زيدان وملاصقة للجانب الغربي للبلاد القديم. ويؤكد على ذلك وصف التاجر لها أيضاً (التاجر 1994، ص32). وقد كان بها عدد من العيون، منها كوكب مرجان وكوكب قصر، وقد ذكرهما التاجر، وعين طشان، وقد ذكرها لوريمر في دليله. وقد زعم كبار السن في هذه المنطقة أن تسمية القرية ارتبطت بهذه العين، أي عين طشان؛ وهي، أي التسمية، تتكون من كلمتين: «طشت»، وهي كلمة فارسية وتعني المنطقة الدائرية، ذات المياه الضحلة، والضمير لاحق بطشت، أي مكان العين الضحلة، وقد اندثرت هذه العين (صحيفة «الوسط»، 13 نوفمبر 2009م).

طشان وسط مثلث الصراع

لقد تغيرت خارطة المنطقة التي تشمل طشان والمصلى والبلاد القديم بصورة جذرية. حيث تحولت الضاحية الغربية للبلاد القديم لقرية مستقلة هي الخميس، وقد كان يقام في الجزء الشمالي منها سوق الخميس الذي كان يقام كل يوم خميس. أما طشان فقد حددت حدودها من مسجد الخميس وتمتد بمحاذاة الحدود الغربية للبرهامة حتى تصل جدحفص.

بهذه الصورة أصبحت في مثلث تتصارع عليه ثلاث مناطق. فأهل البلاد القديم مازالوا يعيشون في التاريخ القديم والحدود التاريخية القديمة للبلاد القديم والتي تضم مقبرة أبي عنبرة والخميس ومسجد الخميس. حتى الكتب التي تذكر مسجد الخميس، مازالت تذكر أنه يقع في البلاد القديم، وليس طشان. كذلك، نقرأ أحياناً في مقالات الصحف، أن طشان جزء أو امتداد لمدينة جدحفص. وبالمثل، فإن هناك من أهالي قرية المصلى، من يرى أن الامتداد الطبيعي التاريخي للمصلى كان يصل حتى مقبرة أبي عنبرة. إن الموضوع الذي طرح في صحيفة «الوسط» (10 سبتمبر 2013م) حول إسكان جدحفص آثار العديد من النقاشات حول تبعية القرى أو تفرعها من قرية معينة. إن ثقافة تبعية القرى مازالت منتشرة وتنعكس في العديد من الكتابات، سواء في الصحف أو فضاء الإنترنت.

إنه الصراع الذي مازال قائماً، بين التشبث بالحدود التاريخية القديمة وأمجاد الأسلاف، وبين واقع قائم نعيشه. وفي خضم كل ذلك يضيع كم كبير لتراث وتاريخ عدد من القرى، حيث لا يكترث أحد بتوثيقه. وهذا ما سنلمسه بوضوح في الحلقات القادمة؛ حيث سنقوم بتسليط الضوء على قرى تاريخية أهملت ونسيت وفُقِد تاريخها، والذي هو جزء من تاريخ البحرين القديم الذي يجب أن نعتز به ولا نفرط بأي جزء منه على حساب التشبث بروايات التبعية التاريخية. سنتناول قرية فاران المفقودة وجاراتها المهمشة، إنها تروي قصة مؤلمة لأنها تروي قصة ضياع إرث أهملنا توثيقه. لازال البعض عاجز على أن يدرك أن تاريخ البحرين القديم هو أحجية، وتاريخ كل قرية فيها يمثل قطعة من تلك الأحجية، وحتى نرى الصورة كاملة وواضحة فلابد أن تتكامل تلك القطع مع بعضها، وعلينا ألا نفرط في تاريخ قرية واحدة على حساب قرية أخرى.

صحيفة الوسط البحرينية – العدد 4445 – السبت 08 نوفمبر 2014م

جبلة حبشي: من دلمون إلى أوال

بقلم حسين محمد حسين

في الحلقة السابقة ناقشنا منطقة جدحفص والقرى المحيطة بها، وأوضحنا أنها أقدم منطقة استيطان في البحرين، وهي، كذلك، من أهم مواقع الاستيطان التي توجد بها آثار متصلة دون انقطاع؛ ما يدل على امتداد الاستيطان بصورة مستمرة في البحرين. في هذه الحلقة سنتناول أدلة آثارية جديدة تدلل على ما سقناه من استنتاجات في الحلقة السابقة. وسنركز هنا على قرية جبلة حبشي.

جبلة حبشي والثلاثي الأسود

تقع قرية جبلة حبشي جنوب شارع البديع ما بين جدحفص والقدم. وسميت بالجبلة ربما لأنها مرتفعة أو بسبب وجود التلال الأثرية وبالخصوص في الجزء الشمالي الغربي منها. وتعتبر واحدة من ثلاث قرى ارتبطت أسماؤها بأسماء جماعات عرقية في شرق إفريقيا. وهذه القرى هي: جبلة حبشي، موضع النقاش، (نسبة للحبشة)، والبجوية وهي جزء من البرهامة حالياً (والبجاوية جماعة عرقية في السودان)، والزنج. ولا يعرف بالتحديد لماذا ارتبطت هذه القرى بهذه المسميات، إلا أنه يلاحظ أن القرى الثلاث توجد في الحيز المكاني نفسه؛ حيث إنها تحيط بمنطقة جدحفص. فهل كانت هذه المناطق تمثل سكن العبيد في العصور القديمة؟

يرى سالم النويدري أنها سميت بجبلة حبشي وذلك ربما أنها «كانت موئلاً لجماعة من الأحباش في بعض العصور التاريخية الماضية» (النويدري 2009). ويرى آخرون أن هذه القرى ربما ارتبطت بصاحب الزنج. وهذا الافتراض الأخير لا نرجحه؛ حيث إن دعوة صاحب الزنج، التي بدأت في البحرين العام 863م، قد فشلت في البحرين ولم يتبعه إلا نفر قليل، وبعدها خرج من البحرين متجهاً إلى البصرة في العام 867م (الملا 2002، ص 92 – 93).

يذكر أنه في العام 2003م كانت هناك محاولات لتغير اسم القرية من جبلة حبشي إلى النجيمات. إلا أن الغالبية رفض التسمية الجديدة. والنجيمات في الأصل هي اسم نخيل (مزرعة) توجد في جبلة حبشي وقد عُرف الحي التي كانت توجد به هذه المزرعة باسم النجيمات، وكان سكان هذا الحي هم من طالبوا بتوثيق مسمى نجيمات كاسم لحيهم ولكن قوبل الطلب بالرفض (صحيفة «الوسط»، 28 و29 يوليو/ تموز 2003م).

جبلة حبشي حيث معامل الفخار الدلمونية

كانت توجد أهم آثار جبلة حبشي جنوب شارع البديع وبالتحديد في المنطقة التي بها مدرسة جدحفص الصناعية ومدرسة جدحفص الإعدادية، وهذه الآثار لم يبقَ منها إلا تلة أو تلتان توجد حالياً شرق مدرسة جدحفص. وقد تعرض الموقع لعمليات إنقاذ تلتها عمليات تجريف. وفي العام 1977م كانت هناك حملة إنقاذ لبعض تلك التلال عندما كانت هناك حاجة لبناء صفوف جديدة في مدرسة جدحفص، ولا يوجد تقرير عن عملية الإنقاذ هذه إلا أن أحد المنقبين فيها، وهو محمد رضا معراج، حدثنا عن تفاصيل ما تم العثور عليه. ومن ضمنها أساس لمستوطنة (مدينة أو قرية) يرجح أنها تعود للحقبة الدلمونية، فقد عثر على آثار تعود لحقبة بابل الجديدة (قرابة 600 ق. م). كذلك، فقد عثر فيها على فرن لحرق الفخار يعود للحقبة الدلمونية. ويصف معراج هذا الفرن أنه من الحجم الصغير وهو بيضاوي الشكل ويتكون من طابقين، وقد تم تصويره في حينها، وبعض بقايا هذا الفرن توجد في مخازن متحف البحرين (معراج، مقابلة شخصية). وهذا النموذج هو الذي كان سائداً في الحضارات القديمة التي عاصرت دلمون. وهو نموذج مصغر للأفران الحديثة التي تعرف بالدوغة. يذكر أن دلمون عرفت أفران حرق الفخار فقد عثر في فيلكا على فرن لحرق الفخار يعود لحقبة دلمون أيضاً (Nourel-Din 1985, pp. 82 -89).

هذه المعلومات تعزز من نظريتنا التي رجحناها في حلقة سابقة عن وجود مدينة دلمونية في جدحفص، بالإضافة لوجود قصر لملك دلموني؛ وذلك بحسب الحجر الذي عثر عليه في مدرسة داود في جدحفص. أما فيما يخص صناعة الفخار وتوارثه عبر العصور في البحرين فقد تناولناه في سلسلة مقالات سابقة عن «ثقافة الطين».

«البلايا» وعرب ما قبل الإسلام

من ضمن التلال الأثرية التي توجد في جبلة حبشي، تلال تعود لحقبة تايلوس، وقد عثر في أحدها على فخار ربما يعود تاريخه للحقبة 400 م – 600 م (Andersen 2007, pp. 85 – 90, and Table 337). كذلك، ففي الخمسينيات من القرن الماضي نقبت البعثة الدنماركية في مجموعة من تلال القبور الأثرية في جدحفص (Bibby 1954)، ويرجح أنها امتداد لتلال جبلة حبشي، لكنها ربما تكون غرب قرية الديه وشرق قرية المقشع. بعض هذه القبور تعود للحقبة البارثية أو قرابة منتصف القرن الثاني الميلادي، وبعضها يعود لحقبة العصر الجاهلي؛ فقد عثر في إحدى هذه التلال على قبور تعود للقرن السادس الميلادي، وعثر في أحد تلك القبور على هيكل عظمي لناقة صغيرة (Bibby). وقد رجح الباحثون أن قبر هذه الناقة يشير إلى طقوس الدفن عند عرب ما قبل الإسلام؛ حيث عثر على عددٍ من قبور الجمال في شرق الجزيرة العربية والإمارات العربية وعمان، وتم التأكيد على أن هذه القبور تمثل ما عرفته العرب قبل الإسلام باسم «البلايا» مفردها «بلية» (Vogt 1994, King 2009). يذكر أنه عثر في الشاخورة على قبر به هيكل عظمي لحمار (Daems and Haernck 2001)، وقد اعتبر هذا، أيضاً، كنوع من البلايا (King 2009).

هذا، وقد ذكر جواد علي في كتابه «المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام» تفاصيل بشأن البلايا ومعتقدات العرب قبل الإسلام (انظر، علي 1993، ج6، ص 129 – 135). ومما جاء عنده بشأن البلية: «إن قوماً من الجاهليين كانوا إذا مات أحدهم عقلوا ناقة على قبره وتركوها حتى تبلى، وتسمى لذلك «البلية». وقالوا، البلية، كغنيّة، الناقة التي يموت ربها، فتشدّ عند قبره، فلا تعلف ولا تسقى حتى تموت جوعاً وعطشاً، أو يحفر لها وتترك فيها إلى أن تموت؛ لأنهم كانوا يقولون صاحبها يحشر عليها» (علي 1993، ج6، ص 133).

وبذلك تعطينا مجموعة تلال القبور في الشاخورة وجدحفص وجبلة حبشي أدلة قوية على استيطان القبائل العربية بالقرب من هذه المناطق. وفيما يخص أي القبائل العربية استوطنت هذه المناطق؟ وفي أي حقبة زمنية؟ فقد أجبنا عن هذه الأسئلة بصورة مفصلة في سلسلة المقالات التي نشرناها سابقاً وتناولنا فيها تاريخ البحرين قبل الإسلام.

الآثار الإسلامية المبكرة

سبق أن ذكرنا أن أقل الحقب الزمنية تمثيلاً في آثار البحرين هي الحقبة ما بين 400 م – 600 م. إن تناقص أو اختفاء تلال القبور التي تعود لهذه الحقبة لا يعني بالضرورة عدم وجود شعوب مستوطنة في المنطقة، بل ربما يشير لتغير حدث في طقوس الدفن. يذكر أن العديد من العرب التي سكنت البحرين اعتنقت الديانة المسيحية، وبذلك تركت طقوس الدفن للديانات السابقة الأقرب للوثنية. ومع ذلك استمرت طقوس الدفن القديمة في الاستمرار، وهذا دليل على وجود التنوع الديني والمذهبي في تلك الحقبة. ويلاحظ أيضاً وجود استمرارية في ثقافة طرق حفر القبور؛ حيث عثر على قبور إسلامية حفرت في الصخر بنفس طريقة قبور ما قبل الإسلام مع تغير طقوس الدفن (Littleton 1997, p. 31).

وهناك دلائل تشير لاستمرارية الاستيطان في هذه المناطق حتى الحقبة العباسية، وربما بعدها أيضاً؛ فقد عثر في العام 2002م في إحدى المواقع الأثرية في جبلة حبشي على عملة عباسية مصنوعة من البرونز (Al-Sulaiti 2005, p. 121)، وهذه العملة شبيهة بما عثر عليه في شرق الجزيرة العربية من العمل التي ضربت في البحرين والتي تعود لقرابة العام 140 هجرية والتي سبق أن ذكرناها في حلقة سابقة.

ومازالت هناك أسرار أخرى تخفيها آثار القرى، سنحاول الكشف عنها في الحلقات القادمة.

صحيفة الوسط البحرينية – العدد 4438 – السبت 01 نوفمبر 2014م

الحركة العلمية في البحرين… سبعة قرون منسيات

جامع عالي الكبير ... تصوير وسام السبع

جامع عالي الكبير … تصوير وسام السبع

وسام السبع

صحيفة الوسط البحرينية – الثلثاء 25 نوفمبر 2014م

اختار الأكاديمي عيسى جواد الوداعي أن يكون إصداره الأول حول «الحركة العلمية في البحرين … من القرن السابع حتى نهاية القرن الثالث الهجري»، وقد تفضّل عليّ مشكوراً بإهدائي نسخةً من الكتاب الذي كنا نترقب صدوره قبل أكثر من عام، عندما تقدّم مؤلفه لهيئة شئون الإعلام في مايو/ أيار 2013 بطلب ترخيص الطباعة، فظلّ حبيس الأدراج إلى أن انتهت فصول معركة التصريح بطباعة الكتاب في الخارج!

تقديم قراءة مستوعبة وشاملة للكتاب بالطبع قد لا تحتملها طبيعة ومساحة هذه المقالة، لذا سأكتفي بالتعريف بهذا الجهد الأكاديمي الذي يستند في ثراء مباحثه على 16 مصدراً مخطوطاً من تراث علماء البحرين العلمي، إضافةً إلى مصادر ومراجع أخرى مطبوعة، والقارئ الكريم بالتأكيد يعرف أن أغلب التراث العلمي البحريني لايزال أكثره مخطوطاً لم ير النور.

الكتاب يقدّم إلماحةً سريعةً عن طبيعة الحياة العلمية والاجتماعية في البحرين، ولعل أبرز الملاحظات الملفتة فيه أنه يعالج تاريخاً يغطي 700 سنة (سبعة قرون) في أقل من 200 صفحة، وقد يكون للكاتب عذره، ذلك أنني شعرت بأنه مسوق بهدف التعريف بهذا الإرث المجهول للأجيال التي نشأت وهي جاهلة تماماً بهذا التاريخ الذي يغفله التاريخ الرسمي، وتخاصمه مناهج التربية والتعليم، وتجفوه جامعات التعليم العالي، وتتنكر له وزارة الثقافة.

يبدأ الكتاب بالحديث عن المدارس الدينية التي عُنيت بتخريج الفقهاء والمتخصصين في المعارف الإسلامية الأخرى، وتابع نشأة تلك المؤسسات العلمية وتطورها، كما وقف على أسباب شهرتها مروراً بمناهج التعليم فيها، وما شهدته من حراك علمي. كما عرج الباحث على دراسة النتاج العلمي البحريني، ورصد تأثر البحرينيين وتأثيرهم في الوسط العلمي الشيعي (الإمامي) بشكل خاص، فتتبع إسهاماتهم في مجالات الفقه وعلمه، والقرآن وعلومه، والحديث وعلومه، وعلم الكلام، منتهياً إلى رصد الحركة اللغوية في المدرسة البحرينية.

وقد خلص البحث إلى عددٍ من النتائج لعل من أبرزها عراقة وقدم المدرسة العلمية في البحرين بوصفهاً مجمعاً علمياً يلتقي فيه الطلاب، يبحثون ويؤلفون تحت رعاية فقيه أو أكثر. ويمتد وجود هذه المدرسة الإسلامية إلى ما قبل القرن السابع الهجري (الثالث عشر الميلادي).

الكتاب أبرز الدور المهم للشيخ ميثم البحراني (ت 699هـ / 1299 م) في التعريف بالمدرسة البحرينية وجعلها إحدى المدارس المهمة في التاريخ العلمي الشيعي، وكشف عن اهتمام البحرينيين بالمؤسسة التعليمية، وهو ما تجلى في رفدها بما تحتاج إليه من مصادر مالية من خلال وقف بعض الأوقاف عليها، أو من خلال إمدادها بما تحتاج إليه من كتبٍ ومصادر.

كما أماط الباحث الوداعي اللثام عن الحركة العلمية داخل تلك المراكز التعليمية وتبيين دور الفقهاء في تشجيع حركة البحث والتأليف العلمي، ودلل على اهتمام المدرسة البحرينية بصنوف المعرفة السائدة في تلك العصور، والدور الريادي في تصنيف الموسوعات الفقهية، إذ لم يعرف الوسط العلمي الشيعي هذا النوع من التصنيف قبل الشيخ يوسف البحراني (ت 1186 هـ/ 1772 م) مصنف الموسوعة الشهيرة «الحدائق الناضرة».

المؤلف كشف أيضاً عن مناهج تفسير القرآن الكريم في المدرسة البحرينية، فقد بيّن وجود ثلاث مناهج في التفسير: التفسير بالمأثور دون غيره، والخلط بين المأثور واللغة، والتفسير باللغة دون غيرها. كما أخرج تفسير المقابي –لأول مرة– من دائرة النسيان، إذ أوضح الكتاب منهج الشيخ المقابي ناقلاً منه نصوصاً، كما أزاح غبار النسيان عن تفسير الشيخ عبدالله الستري فعرّف منهجه، ناقلاً بعض النصوص المؤيّدة لذلك. كما كشف المؤلف أيضاً عن موقف علماء البحرين من علم الكلام، فأوضح موقف الشيخ ميثم البحراني المناصر لعلم الكلام، وفي المقابل عرض لموقف الشيخ عبدالله السماهيجي المنكر لعلم الكلام.

وقد أوضح المؤلف الوداعي اهتمام علماء البحرين في القرن الحادي عشر الهجري (السابع عشر الميلادي) وما تلاه بعلم الحديث وعلومه، وتبين مناهجهم في التأليف، وحصر المشتغلين باللغة وعلومها من علماء البحرين وتقديم ثبت لمصنفاتهم اللغوية.

وقد طرح الكتاب قضية تغييب الجانب اللغوي من تاريخ العلماء في البحرين، وقد رأى المؤلف أن عدم الإشارة إلى ذلك إنما كان ناتجاً عن عدم وقوع بعض من اشتغل باللغة من علماء البحرين في طريق الإجازات الفقهية، إضافةً إلى ضياع التراث اللغوي لعلماء البحرين مع ما ضاع من التراث العلمي.

الكتاب محاولةٌ متميزةٌ في مقاربة موضوع مسكوت عنه، وهو أول دراسة أكاديمية باللغة العربية –في حدود اطلاعي- حصرت اهتمامها بتاريخ الحركة العلمية في البحرين، وإن كانت هناك محاولات سابقة تناولت جانباً أو جزئيةً من هذا التاريخ المتشظّي والمبعثر، نذكر منها دراستين على جانب كبير من الأهمية: «الفقيه والدولة… الفكر السياسي الشيعي» لفؤاد إبراهيم، حيث أفرد قسماً في الفصل الثالث من الكتاب للحديث عن البحرين في العهد الصفوي، متقصّياً التجاذبات الفكرية التي عاشتها البحرين في ذلك الوقت، مشيراً إلى أبرز الأطروحات الفقهية التي أنتجتها المؤسسة الدينية.

وكتاب «الفكر السلفي عند الشيعة الإثني عشرية» للدكتور علي حسين الجابري، وهو رسالة ماجستير من كلية الأدب في جامعة بغداد في منتصف سبعينيات القرن الماضي، فقد خصص الفصل السابع من الباب الثاني للحديث عن الفكر الديني في البحرين والعراق، ووقف على ملامح نشأة فكر المدرسة الأخبارية في العراق راصداً أصداءها وأبرز أعلامها في البحرين.

وصلة المقالة في الصحيفة

http://www.alwasatnews.com/4462/news/read/939137/1.html

زيارة للتاريخ… البحرين قبل خمسين عاماً

main_loc-30

الوسط – محمد عبدالله محمد

صحيفة الوسط البحرينية – الأحد 09 نوفمبر 2014م

إذا كان لكل زمنٍ لغته، فإن لكل عصر أدواته أيضاً. وإذا كان الناس اليوم يُعبِّرون عن مشاعرهم ومواقفهم بالتكنولوجيا الحديثة سواء الكتابة الآلية أو عبر البريد الإلكتروني (Email) والتراسل الفوري (WhatsApp) أو الفاكس (Fax) فإن مَنْ لم يُدرك منهم هذه التكنولوجيا كان يلجأ إلى ما كان متاحاً لديه حيث القلم والورق فقط.

لقد كان الورق هو الوسيلة «شبه» الوحيدة لما هو مكتوب خلال حقبتَي الستينيات والسبعينيات، مع التحدي الذي كانت تُمثِّله الأمية حينها، رغم أن بداية التعليم الرسمي في البحرين كان قد بدأ عام 1919م، وتعليم البنات في عام 1928م، والتعليم الصناعي في الثلاثينيات، إلاَّ أن ما وَرَدَنا من تلك الفترة كان ينمُّ عن وَلَعٍ بالكتابة والتعبير عن المشاعر بطريقة فريدة على الورق، مع البداية الجنينية لتجذُّر التعليم في البحرين، وضعف وسائل الاتصال بما فيها الهواتف الأرضية، التي كانت موجودة لكنها في نطاق محدود جداً، بل وفي بيوت معروفة دون غيرها.

كان المدخل الحقيقي للتكنولوجيا في البحرين هو العقد الخامس من القرن الماضي، حين قام كل من بنك البحرين الوطني وبنك البحرين والكويت والبنك البريطاني للشرق الأوسط والبنك الشرقي (ستاندرد تشارترد لاحقاً) باعتماد نظام الحوسبة في معاملاتهم البنكية، تلتهم في العام 1962م شركة بابكو باستخدامها حاسوب IBM 1401 المركزي حسب متابعة أحد المؤرخين.

لكن، وعلى مستوى الأفراد، لم يكن ذلك متاحاً بالمطلق، مع بدائية الحياة خارج البنوك والشركات النفطية. فقد ظل الناس يعتمدون في مخاطباتهم على رسائل القرطاس، التي كانت تُبعَث بالبريد في الداخل والخارج، فضلاً عن الرسائل الخاصة أو قصاصات الورق، التي كان يكتبها الناس كملاحظات لبعضهم وتُرمَى من أسفل أبواب البيوت وفي أحيان أخرى عبر البريد، الذي كان يعمل في البحرين منذ العقدين الأخيرين من القرن التاسع عشر.

كانت المراسلات تتطلب جهداً أكبر في الإعداد والإرسال مقارنة باليوم، الذي لا تتجاوز فيه كتابة رسالة أزيد من عشر دقائق لتصل في بحر ثانية واحدة. إلاَّ أن الرسائل المكتوبة قديماً كانت تتسم بالدفء كونها أكثر توجيهاً وقصداً، وبالتالي تزداد أهميتها بالنسبة للمرسل والمرسَل إليه، والذي في بعض الأحيان كان يقوم بالرد على ظهر الوارد له.

في بعض مناطق البحرين، كانت الأحياء تضم بعضاً من الكُتَّاب، الذين يقصدهم الناس كي يُملُوا عليهم ما يودون كتابته إلى أحبائهم أو أصدقائهم، وخصوصاً أولئك الذين لم يَحْظَوا بتعليم كافٍ. لكن هذا لا يعني أن أحداً لم يكن قادراً على الكتابة بنفسه، بل إن هناك مَنْ كان لديه تمام القدرة على ذلك. وقد وجدتُ في بعض تلك المراسلات خطوطاً غاية في التأنُّق، وتعبيرات فيَّاضة، تدل على ما يتمتع به كاتبها من حسٍّ أدبي، ومهارة في إمرار القلم على الورق.

في إحدى المراسلات المؤرخة في 26 ثاني فطر سنة 1386هـ (كَتَبَها هكذا: ثاني فطر وهو الوصف الشعبي الدارج في البحرين لشهر ذي القعدة وهو يصادف بالتقويم الميلادي الثامن من مارس عام 1967م) يكتب المرسِل رسالة لصديقه الذي كان في رحلة دينية: «خصّ نفسك بالسلام وعلى أهلك وعلى الحجاج الذين معك» ثم يسرد أسماءهم جميعاً.

في شهادة صادرة عن المدرسة الأهلية في البحرين والتي كان مقرها في شارع القصر القديم بتاريخ 27 سبتمبر/ أيلول 1970م وبإمضاء مديرها المرحوم الأستاذ عبدالرسول التاجر، يشهد الأخير فيها بأن الطالب ع. م. «قد اجتاز الفحص النهائي في اللمس على الآلة الكاتبة العربية، بسرعة معدلها 30 كلمة في الدقيقة، مع الإتقان بدرجة 100 في المئة، وبسرعة معدلها 33 كلمة في الدقيقة مع الإتقان بدرجة 99 في المئة، ثم يقول: «إني أقدِّر أهليته الجيدة للغاية في النظافة والإتقان في فن الكتابة على الكاتبة العربية، لهذا لم أتوقف في إعطائه هذه الشهادة، التي أُوصِي به توصية شديدة لمن رَغِبَ في استخدامه».

ويظهر من طريقة الصياغة في نص الشهادة مدى العلاقة التربوية والدفء الذي كان قائماً بين الأستاذ والتلميذ، وفي الوقت نفسه الاعتناء بالكلمات وفق سبكٍ متين. وربما يرجع ذلك إلى ما كان يتمتع به الأستاذ التاجر من حِسٍّ أدبي، وثقافة واسعة، حيث إنه صاحب أنفس المكتبات البحرينية والخليجية «المندثرة»، وكان معلِّماً للغة العربية وأيضاً للغات الأجنبية كالإنجليزية إلى جانب المواد الأخرى، مثل الدراسات المصرفية وأمثالها.

في كثير من الأحيان، وبسبب بدائية وبطء المواصلات في ذلك الزمان كانت بعض الرسائل لا تجد طريقها الصحيح نحو المرسَل إليه، وبالتالي يكون مصيرها الضياع أو التلف. في إحدى الرسائل المؤرخة في 23 أكتوبر من العام 1971م يُذيِّل أحد كبار السن رسالته لابنه في خارج البحرين بهذه العبارة: «أخبَرتَنا في رسالتك الأخيرة، أنه لم تصلك أيّ رسالة من عندنا، حيث إننا أرسلنا (إليك) رسالتين» ثم يذكر تاريخ واحدة منها ويسهو عن الأخرى.

في إحدى الرسائل التي بعث بها المواطن إبراهيم أ. ك إلى صديقه البحريني الذي كان يدرس في الرياض حينها بتاريخ 5 ديسمبر/ كانون الأول 1972م يُعلمه عن آخر نتائج انتخابات المجلس التأسيسي في البحرين وفي الدوائر الـ 19 حيث صدَّرها بقوله: «أدوِّن لكم في هذه الرسالة أعضاء المجلس التأسيسي التي تم انتخابهم من قِبَل الشعب» ثم سردهم فرداً فرداً.

ومن الطرافة أن كاتب الرسالة وعندما يصل إلى مرشح الدائرة الثانية عشرة، وهي تشمل: جدحفص والسنابس والديه ومروزان وطشان والمصلى، يشير إلى أن الفائز هو الملا حسن أحمد زين الدين فيُعلِّق على ذلك: «وهو قَارِينا (أي مَنْ يصعد المنبر في مأتمنا) حصل على 596 صوتاً؛ لأن الشعب واضع الثقة عليه، لأنه متديِّن فيريدون منه سعادة الدين».

وربما تُشكِّل هذه الرسالة دالة أخرى على الحالة الإنثروبولوجية للمجتمع البحريني في ذلك الوقت، حيث كانت السِّمة المحافِظَة هي المهيمنة رغم قوة التيارات اليسارية والقومية. فقد كان موقع علماء الدين مركزياً في التوجيه والإرشاد، وبالتحديد في الحزام الريفي للبحرين، لذا، وجدنا فوزاً لبعضهم خلال العمليات الانتخابية في السبعينيات.

في إحدى القصاصات التي تُبيِّن حالة مديونية، ومؤرخة في 10 أكتوبر/ تشرين الأول من العام 1975م يبدأ المرسِل بتسمية المرسَل إليه وإبداء التحية له، ثم يكتب: معذرة: وألفُ معذرة: لا داعي للاستفسار ولكن ليس إلاَّ .. المهم حسب ما أعتقد أن لكَ ما يقرب من الخمسون دينار (كَتَبَها هكذا بخطئها النحوي حيث كان من المفترض أن تُكتَب: من الخمسين ديناراً) وليس ثمانية وأربعين ديناراً، وها هي الدفعة الأولى والثانية عن قريب إن شاء الله تعالى».

وتُظهِر تلك الرسالة مدى الثقة التي كانت معقودة بين الناس، حيث كانت الاستدانة الشخصية في أغلب الأحوال، لا تخضع لعقود أو توثيق أو لأوراق قانونية، على رغم أن مبلغاً بمقدار 50 ديناراً، كان يساوي في ذلك الأوان 300 دينار بحسب رأي أحد الاقتصاديين. وربما يعكس ذلك طبيعة العلاقات الاجتماعية التي كانت سائدة في ظل زيجات الأسر السلالية وغياب الأسَر النووية الصغيرة، وبالتالي تداخل الدماء والعائلات ببعضها.

في رسالة جميلة، يكتب م. ع. ج. بتاريخ 14 مايو/ أيار 1975م إلى مسئول بأحد المؤسسات الحكومية الخدمية: «لقد ملَأَنا الفخر وسَرَى في جسمنا سيلٌ من النهر، حلوة منابعه، رقيقة نسماته، وانشرحت صدورنا، وتضخمت عضلاتنا، حينما نفَّذت حكومتنا الموقرة، فكرة الأجهزة اللامركزية». لكنه وفي ختام الرسالة يقول: «آه من دنيا تلعب الواسطة دورها الخطير في المجتمع، ولو كانت لدينا الوساطة لأُنجِزَت كل أعمالنا ولحُبَّت (أي قُبِّلَت) أقدامنا». وهو ما يعني أن بداية الرسالة كانت تحمل جانباً من التهكُّم بتكثيرها المدح والإشادة بالجهاز التنفيذي للدولة، لكنها سرعان ما توجِّه نقداً لاذعاً لها، مع الغمز لأبناء الذوات في تمرير أعمالهم دون غيرهم، كتعبير عن موقف سياسي ناقد.

وربما كانت الفترة التي تمت فيها تلك المخاطبات هي إحدى أهم الحقب التي مرَّت على البحرين، كونها كانت متصلة بفترة النضال ضد الوصاية البريطانية، وأيضاً تأثرها بالموجة القومية المتدفقة من مصر جمال عبدالناصر، حيث دماء العرب في حروب تحرير فلسطين لم تَجِف بعد، وبداية اندفاع الإسلام السياسي القادم من العراق ولبنان وشمال إفريقيا، وبالتالي تأثر البحرين بكل تلك العوامل، فضلاً عن تحولات الدولة البحرينية على مستوى الداخل، حيث المجلس التأسيسي ثم انتخاب أول مجلس نيابي بعد الاستقلال الوطني.

الحقيقة، أن الاطلاع على العقدين اللذين سبقا ثمانينيات القرن الماضي، يمنحنا القدرة على رؤية منسوب الحركة الاجتماعية والسياسية والتقنية التي كانت تعيشها البحرين في ذلك الأوان، ليس فيما تطرقنا إليه فقط، بل في العديد من الصور، لكنها وفي الوقت نفسه تحمل الكثير من الدلالات الجميلة لجزء مهم من تاريخنا الحديث.

كتابة الأسماء على القدور تقليدٌ مازال متوارثاً

الكتابة على القدور عادة قديمة توارثها الأهالي من كبار السن

الكتابة على القدور عادة قديمة توارثها الأهالي من كبار السن

سترة – عبدالله حسن

صحيفة الوسط البحرينية – الأربعاء 05 نوفمبر 2014م

يعتبر الطبخ التقليدي في عاشوراء البحرين من أكثر ما يلفت الانتباه ويستقطب كاميرات المصورين؛ ذلك لأن هذه الطريقة في الطبخ بدأت بالانحسار وتراجع العمل بها إلا من بعض المناطق وبشكل قليل جداً، بسبب توجه الناس لطبخ وجبات عاشوراء في المطابخ أو في المنازل باستخدام الغاز.

في الطبخ التقليدي الكثير مما يشد الانتباه والاهتمام، فبالإضافة لاستخدام الخشب والطبخ في العراء واللباس التقليدي يوجد شيء آخر يلفت الانتباه هو الكتابة على القدور. فيندر أن تجد تجمعاً للطبخ التقليدي دون أن تجد هناك قدوراً كتب عليها أسماء. هذا إن لم يكن قد كتب على كل القدور. وأسباب كتابة الأسماء على القدور اختزلتها أم هيثم بجملة «إن من لديه حاجة يكتب اسم طالب الحاجة على القدر» وأم ميثم مع أفراد عائلتها «عائلة الماكنة» يحرصون كل يوم عاشر على إحياء هذا التقليد المتوارث بشكل سنوي في منطقة سترة كما إنهم يحرصون أيضاً على أن لا يبقى قدر دون أن يكتب عليه اسم أحدهم، فتحمل أم هيثم الفحم الناتج عن خشب الطبخ وتمر على القدور واحداً تلو الآخر لتسجل أسماء من لديهم حوائج على القدور التي لم يسبقها أحد في تسجيل اسم عليه. أما «أم أحمد» فأضافت أن الكتابة على القدور عادة قديمة توارثوها من كبار السن إذ يكتبن بالفحم الناتج عن ألواح الخشب وليس بشيء آخر. أو تتم الكتابة عن طريق تنظيف أسفل القدر في المنطقة التي يصيبها سواد دخان الطبخ فيشكلون بها الأسماء المراد كتابتها. وأضافت أنه لا يشترط أن يكتب كل شخص اسمه فيستطيع أي شخص تدوين اسم شخص آخر حتى إن لم يكن موجوداً وعلى أي قدر من القدور الموجودة حتى إن لم يكن ملكه أو له مشاركة في الطبخ. وواصلت أم أحمد أن هذا التقليد يقصد به التبرك وطلب الحاجة ويأتي هذا نتيجة عمق الإيمان بالإمام الحسين وقضيته، والتبرك أثناء الطباخ لا يقتصر فقط على كتابة الأسماء بل هو أولاً في المشاركة وبعدها تتعدد طرق التبرك وطلب الحاجات وقد يجدها البعض أنها ليست من العقل ولا أختلف معه لأنها من الإيمان ولا أجد من يفعل ذلك إلا مؤمناً بما يفعله.

main_loc-12

123عاماً على خروج أول مواكب العزاء في البحرين

بوشهري: المنامة عاصمة العزاء البحريني… والتوثيق لايزال خجولاً

مواكب عزاء المنامة كما بدت في منتصف القرن الماضي نقلاً عن كتاب لعبدالكريم إسماعيل بعنوان «شعائر الصورة... مواكب عزاء عاشوراء المنامة في أوائل القرن التاسع عشر»

مواكب عزاء المنامة كما بدت في منتصف القرن الماضي نقلاً عن كتاب لعبدالكريم إسماعيل بعنوان «شعائر الصورة… مواكب عزاء عاشوراء المنامة في أوائل القرن التاسع عشر»

الوسط – محمد العلوي 

قال الباحث التاريخي علي بوشهري إن المنامة تمثل العاصمة الحقيقية للعزاء في البحرين، مستدلاً على ذلك بالإشارة إلى أن المنامة كانت المكان الذي شهد قبل 123عاماً، خروج أول مواكب العزاء من داخل المأتم إلى الشارع.

بوشهري، الذي تمتلئ ذاكرته بمحطات فاصلة من تاريخ العزاء البحريني، يتكئ فيها على وثائق تختص بمأتم العجم وتعود إلى العام 1926، يؤكد أن توثيق تفاصيل تاريخ العزاء لايزال خجولاً، مبيناً في الوقت ذاته، أن الكثير من الوثائق اللازمة لإنجاز ذلك غير متوافرة بسبب عدم اهتمام القائمين على العزاء في السابق بذلك.

وفي حديثه مع «الوسط، أشار إلى أن «المعلومات المتوافرة لدينا، تقول إن أول موكب عزاء خرج من داخل المأتم إلى الشارع، كان في العاصمة المنامة، تحديداً من مأتم بن رجب الذي يعتبر من أقدم المآتم في البحرين، وهذا يعني أن المنامة هي المهد الحقيقي للعزاء بمآتمه ومواكبه».

وأضاف «شكل العام 1891 عاماً فاصلاً في تاريخ العزاء في البحرين، فقبل هذا العام كانت مواكب العزاء مقتصرة على داخل المآتم، لتخرج بعد ذلك من مأتم بن رجب لتقطع أزقة المنامة القريبة من المأتم نفسه، ولتلتحق به بعد ذلك مآتم أخرى من بينها مأتم العجم الذي كان مبناه القديم يقع بالقرب من مأتم بن رجب، ثم بعد ذلك بثلاثة أعوام توالت عملية انفصال المآتم عن موكب عزاء مأتم بن رجب».

وفي كتابه الموسوم بـ «شعائر الصورة: مواكب عزاء عاشوراء المنامة في أوائل القرن التاسع عشر»، تحدث الباحث عبدالكريم إسماعيل عن بدايات وأنواع مواكب العزاء، بالقول: «هنالك 6 أنواع من المواكب، وتتمثل في: موكب الصدر، الحيدر أو القامة، الزنجيل أو الصنقل، الموسيقى، الطبول، التشابيه أو التمثيلية».

وهنا يؤكد بوشهري أن أول مواكب العزاء التي خرجت تمثلت في موكب عزاء الصدر، ومع مرور الزمن ظهرت أنواع أخرى من المواكب من بينها موكبا العزاء المعروفان بالصنقل، والقامة.

وردّاً على سؤال بشأن تقييمه لعملية توثيق تاريخ العزاء في البحرين، أجاب بوشهري: للأسف الشديد لم يوثق حتى اللحظة، وإنجاز ذلك يتوقف على توافر الوثائق المكتوبة والتي تؤرخ لبدايات العزاء ومراحله، متطرقاً، في هذا الصدد، إلى عدم اهتمام غالبية المآتم بذلك، والذي قد يعود إلى الصبغة العائلية التي التصقت بها وحالت دون توثيقها لتفاصيل إحياء العزاء سابقاً.

وأضاف «على إثر ذلك، سيواجه مشروع التوثيق هذا تحديات ليست بالبسيطة»، مؤكداً امتلاكه وثائق تختص بحسابات مأتم العجم والتي تحويها دفاتر تعود إلى العام 1926م، وتتضمن تحديد لتواريخ خروج المواكب والتفاصيل الخاصة بالمصروفات، بما في ذلك مبلغ مقداره 5 روبيات تم دفعه للفرقة الموسيقية للشرطة والتي كان المأتم يستعين بها لتنظيم الموكب الخاص بذلك.

أما علاقة القرى والأطراف ببدايات العزاء في البحرين، فينوه بوشهري إلى أن القرى قبل العام 1891م تحديداً، لم تكن فيها مآتم للعزاء كما هو متعارف عليه حاليّاً، فضلاً عن المواكب، موضحاً أن بعض القرى كانت تتضمن مدارس دينية تتحول إلى مآتم في مناسبات دينية معينة، من بين ذلك مدرسة العلامة الشيخ حسين العصفور والتي تقع في الشاخورة، والتي نقش على جدارها مدرسة دينية ومأتم الحسين.

وأضاف «ما يعزز من هذا الكلام ومن صواب هذه المعلومات، هو المنقول سواءً عن كبار السن أو السياح، أو حتى ما هو معروف من تواريخ تأسيس المآتم في البحرين والتي لا يتجاوز عمر أقدمها 150 عاماً».

كما أوضح «حتى القراءة الحسينية التي كانت تنعقد في عدد من القرى في السابق، كانت تقام في مجالس المنازل، ولم يكن هنالك مبنى معروف ومحدد باسم المأتم، باستثناء ما وجد في المنامة قبل أكثر من 100 عام».

وتفسيراً لريادة المنامة في هذا الشأن، تطرق بوشهري إلى جملة أسباب، تبدأ بالوضع المالي الميسور لعدد من شخصيات العاصمة، والذي لم يكن متوافراً بالمستوى نفسه لدى أهل القرى، بالإضافة إلى الاختلاط والتنوع العرقي الذي ميز مجتمع المنامة، ما هيأ لها استقطاب واستحضار التجارب والأفكار من بلدان عديدة.

صحيفة الوسط البحرينية – الأربعاء 05 نوفمبر 2014م الموافق 12 محرم 1436هـ

مرايا التراث

في تاريخ وتراث البحرين