حين حكمت بريطانيا البحريــن.. بشكل غير مباشر

bhrain (40)

أحمد العبيدلي

قراءة في كتاب : الحماية والسياسة في البحرين، لطلال فرح، الجامعة الأميركية في بيروت.

يقول الكاتب (طلال فرح) إن الدراسة اعتمدت بشكل رئيس على مصادر بريطانية، حيث لم يتمكن في العام 1971 وقت إعداد دراسته من الحصول على الأرشيف الذي سمّاه بأرشيف آل خليفة. ومن جانب آخر، تحتوي المصادر البريطانية على الكثير من مراسلات كتبها أفراد من الأسرة الخليفية إلى مسؤولين بريطانيين خدموا في الخليح. وشكّل أكثر المصادر أهمية سجلات مكتب الهند. ومن بين المجموعات المنوِّرة مجموعات من الأوراق الخاصة، ومنها تلك التي تعود إلى اللورد كرزون، نائب الملك في الهند بين 1899-,1905 وهي فترة عصيبة في العلاقات البريطانية -البحرينية.

وتعتمد الدراسة المنشورة على أطروحة دكتوراه قدمت لمدرسة الدراسات الشرقية والافريقية بجامعة لندن عام .1979

ولا تزال مشكلة المصادر مشكلة قائمة في منطقة الخليج بالنظر لا نعدام عادات التدوين المنتظم السابق من ناحية ولتباطؤ المؤرخين المحليين من تدوين رؤاهم عن الفترات السابقة من ناحية أو حتى القيام بدور تجميعي لتلك المراحل. ويبرز بنحو خاص مسألة تسجيل التراث الشفاهي للأعداد المتناقصة من الناس الذي سمعوا ممن عاش في تلك الأيام.

أحمد العبيدلي

أحمد العبيدلي

ولا يدري المرء ما المقصود بأرشيف آل خليفة، وإن كان هناك شيئ موجود بالفعل تحت هذا المسمّى. على أن هناك إشارة تلفت الانتباه وردت في كتاب تاريخ آل خليفة في البحرين للشيخ عبدالله بن خالد آل خليفة وعلى أبا حسين (البحرين، 2005)، حيث ورد حين ذكر ظروف تولي الشيخ حمد بن عيسى رسمياً مهام الحكم في فبراير/ شباط 1933 أنه قد ‘’نقلت آلاف الرسائل المحفوظة في خزانات إلى المكتب الحكومي للنظر فيها ثم تصنيفها. وإن لم يتم ذلك لكثرة عددها الذي يقارب أربعة آلاف وثيقة’’ (ص 428).

بات من المكرر التأكيد على أهمية تدوين التاريخ في البحرين. وليس هناك من طريقة أخرى للحث على ذلك الأمر. على أن بعض الإشارات قد تنفع في هذا المجال. أولها اعتبار ذلك التدوين مسألة لا تعتمد بالضرورة ولا ترتبط بالدولة. فيمكن للأفراد العاديين منهم والمقتدرين أن يساهموا في هذا الجهد. وهم إذ يدونون تاريخاً ذاتياً يسهمون في تدوين تاريخ عام.

والأمر الثاني: دعم حركة التأريخ التي يقوم بها مجموعة من الأفراد حالياً.

والأمر الثالث ليس هناك شيء غير مهم أو ليس بذي قيمة تاريخية. فمن الضروري في المرحلة الحالية المحافظة على التاريخ من الألسنة والأفئدة وحفظه، وترك مسألة الحكم على قيمة المحفوظ لأجيال قادمة. وبدون ذلك لن تحصل تلك الأجيال على ما يمكن الحكم عليه إطلاقاً.

************

كما هو الحال في أي مجتمع في العالم، فإن بعض ظواهر الحاضر البارزة في البحرين، يمكن فهمها على ضوء أحداث سابقة. وتزداد أهمية هذا المنهج حين يكون المجتمع الحالي بعيداً عن محاولات دراسة ماضيه بشكل جاد، ومنتظم، ونقدي.

واليوم تعيش البحرين مرحلة تشكلها الحديث، وتُبلور مجتمعها في مسيرته التي تطبع حياته لسنوات قادمة، إن لم نقل لعقود. ولا تزال فترات سابقة من تاريخ البحرين تستدعي الدراسة وإعادة النظر إن كان من ناحية الاتساع، أو من ناحية العمق. ووسط هذه الفترات تطل فترة حكم الشيخ عيسى بن علي آل خليفة الطويلة (1869-1923) بعيدة عن أن تدرس، وأن توضع التطورات المختلفة التي مرت بها على مشرحة البحث تمهيداً لهضمها واستيعابها، وللاستفادة منها في الفترة الراهنة.

ويشكل كتاب طلال فرح ‘’دراسة تاريخية للبحرين’’ وبالتحديد حول تنامي الحماية البريطانية على البحرين في القسم الأكبر والأول من حكم عيسى بن علي المديد. وهو يحاول أن يبين كيف ولماذا تغيرت العلاقة بين المشيخة وبريطانيا بين 1869 و1915 وكيف تسنى لهذا التغير في العلاقة هذه أن يجد تعبيره في وضعية قانونية.

وتعود أول اتفاقية بين بريطانيا والبحرين إلى العام 1820 عندما وقع شيوخ البحرين على ‘’المعاهدة العامة’’، التي على إثرها التزموا بعدم السماح ببيع أية ممتلكات في المشيخة استُحوِذ عليها بالنهب والقرصنة. ومثّل عهد الشيخ عيسى بن علي نهاية مرحلة طويلة اتصفت بالصراع الدموي الداخلي في المشيخة. وبعد ,1869 فإن التحديات الأساسية للسلطة لشيخ البحرين الحاكم أتت أساساً من قوى تنطلق من خارج البحرين.

ويشير الكتاب إلى أنه في ذلك الحين كان البريطانيون ناجحين أساساً في جهدهم المديد لفرض السلام البريطاني على مجمل الخليج. وعلى رغم استمرار أعمال القرصنة، فإن قدراً كبيراً من القانون والنظام قد تم تأسيسهما في البحرين بإشراف بريطاني. وفي الوقت نفسه شكلت سبعينات القرن التاسع عشر انتهاء سيطرة بريطانيا المطلقة على مياه الخليج حيث أظهرت قوى أوروبية متعددة أخرى وجودها هناك. ولذلك شكلت الفترة ما بين 1896-1915 في تاريخ البحرين مرحلة شهد فيها السلام البريطاني تحديات متنامية. وهي مرحلة تشكيلية في تنامي سلطة بريطانيا على البحرين.

الاستعمار أنواع

وعلى رغم وجود كتب أخرى تعالج تاريخ البحرين، إلا أن الكاتب يقول إن عمله هو الدراسة الوحيدة التفصيلية التي تقتصر على الفترة الحيوية لتنامي الحماية البريطانية على المشيخة. وتبحث الدراسة في موضوع آخر مهم أيضاً. فلم تكن كل أجزاء الامبراطورية البريطانية مستعمرات تحكم مباشرة من وايتهول. فلقد وجدت مجموعة منها عبارة عن ولايات مارس البريطانيون على حكامها سيطرة وتأثيراً متفاوت الدرجات. وشكّل هذا ‘’الحكم غير المباشر’’ أمراً مهماً خصوصاً في الخليج، وحيث ظهرت البحرين كمثل بارز كولاية حافظت فيها السلطات البريطانية على سيطرتها بشكل غير مباشر.

تشير ملاحظة الكاتب هنا إلى نمط الاستعمار البريطاني وموقعه في التاريخ العالمي. فلقد توسع الإنجليز في العالم بعد أن سبقتهم إلى بحاره قوى أوروبية مختلفة، وأولهم البرتغاليون. فهم أول من وطأت أقدامهم سواحل جزيرة العرب والخليج العربي.

ولقد أتوا وكانت حروب الأندلس بين المسلمين والمسيحيين بالكاد قد هدأ أوارها. وحين قدم البرتغاليون أرادوا التجارة من جانب، ولكنهم حملوا إرثاً صليبياً قديماً. ولذلك ارتكبوا في محاولاتهم لفتح طرق التجارة مجازر كبيرة في سواحل الجزيرة الجنوبية وفي هرمز. أما الإنجليز فلقد قدموا وقد مهّد الأوروبيون لهم طرقاً كثيرة، فأرادوا لإمبراطوريتهم أن تكون أكثر عقلانية وبالتالي أكثر دواماً، فوطّنوا النفس على أن يركزوا على التجارة ويظهروا أكبر قدر من الاحترام للديانات والتقاليد المحلية، طالما لم تقف في وجهة استمرار تجارتهم، ولا تعيق سيطرتهم السياسية المطلقة حيثما أرادوا أن تكون لهم السيطرة المطلقة، كما حصل في الهند مثلاً.

ولذلك لم يكن هناك نمطٌ واحدٌ اقتفته لندن في مد نفوذها، فمن الاستعمار الاستيطاني كما حدث في أميركا وكندا وأستراليا، إلى الاستعمار المباشر دون جعل الاستيطان هدفاً أساسياً كما هو الحال مع الهند. وتنوعت حتى مناطق الجزيرة العربية نفسها في طبيعة ومدى النفود البريطاني: فمن عدن التي عدت مستعمرة وتابعة للتاج البريطاني، إلى محميات الجنوب العربي ومشايخ الخليج التي عقدت معها بريطانيا معاهدات أحالتها إلى حالة من التبعية دون أن تتكلف بريطانيا مشقة الحكم المباشر. وهناك عمان التي ظلت بريطانيا تقيم معها علاقة متميزة على أساس أنها دولة كبيرة ومستقلة ورتبت نفوذها فيها بشكل يختلف عن بقية أنحاء الجزيرة العربية.

لم تقع مناطق الخليج على أولويات السياسة البريطانية في نهاية القرن الثامن عشر وبدايات القرن التاسع عشر. فلم تحتو لا على منتجات مهمة (مثل بهارات الهند مثلاً) ولم تحتوِ على سوق كبيرة لتصريف المنتجات الإنجليزية. ولذلك ظل الإطلال البريطاني على الخليج إطلالاً يقترب من الاهتمام العام وبعيداً عن التدخل المباشر. اقتصرت أهمية الخليج الاستراتيجية على وقوعه على الطريق المؤدي إلى الهند. ولذلك وحين أخذ القواسم وهم قادة التحالف القبلي على الساحل الذي بات يعرف الآن بالإمارات العربية المتحدة يهددون سلامة السفن البريطانية، واستمرار خط التجارة إلى الهند قررت بريطانيا أن تضع حداً لذلك لحماية مصالحها. أرسلت بريطانيا الحملات العسكرية التي انطلقت من الهند البريطانية، ووصلت ذروتها في حملة 1819 وأدت إلى كسر القوة العسكرية القاسمية، وتوقيع اتفاقيات السلام الدائم في عام ,1820 والتي وقعتها البحرين.

فوارق

ولذلك من المهم معرفة الفوارق بين القوى الاستعمارية، ورؤية الظلال المختلفة التي تطبع بلاد صغيرة مثل البحرين بالدول القوية المحيطة لتتمكن مختلف القوى من تحديد مواقفها تبعاً لذلك.

لقد اكتفت بعض قوى البحرين السياسية ومنذ أن أخذت المسألة الوطنية تحتل موقعها ضمن تفكيرها في وسم العلاقة مع بريطانيا بالعلاقة مع الاستعمار، وذلك على نحو الإطلاق. وساوت بين الوجود البريطاني في مناطق الخليج وبين جميع أشكال الاستعمار في العالم، ولم تسمح لنفسها حقيقة بمعرفة أسس العلاقة ومداها بين البحرين وبريطانيا. ولم تتمكن من استخدام بوصلة صحيحة لتحديد اتجاهات الصراع والتحالف إبان الوجود البريطاني في البحرين.

ولربما أفادت معرفة تلك المسائل وإعادة دراستها لفهم بعض نجاحات أو إخفاقات الحركة السياسية البحرينية، كما حدث في الخمسينات من القرن الماضي إبان نضالات هيئة الاتحاد الوطني. ولربما أفادت لرسم سياسات حتى في وقتنا حيث لا تزال البحرين تحتل حجماً مميزاً ضمن خطط الدول الغربية لدمقرطة الخليج.

أميركا بعد بريطانيا

وتنسحب الحال نفسها على حاضر العلاقة القائمة بين البحرين وبين عديد من عواصم العالم. فمع تزايد أهمية منطقة الخليج لوجود النفط فيه ووقوع أحداث به مع منعطف نهاية القرن الماضي على رأس أولويات السياسة العالمية، وتبلور موقع البحرين ليحلها محلاً مميزاً ضمن أجندات أوروبا وأميركا، والأخيرة على نحو التحديد. فأميركا باتت هي في مركز قيادة العالم الوحيد القطب، وهي مشتبكة في حرب أعلنتها هي حربها ضد الارهاب، ثم انها تقود جهداً لدمقرطة العالم.

وهي بأوصافها الثلاثة الأخيرة تجد نفسها تتجه بشكل أو بآخر للشرق الأوسط والخليج على نحو الخصوص. ووسط الخليج تبدو البحرين من أكثر الدول اهتماماً بتلك المشروعات، وهي في الوقت نفسه وبطبيعة نسيجها الاجتماعي والسياسي مهيئة للتلاقي مع كثير من الخطط والتصورات الأميركية.

وهكذا وجدت أميركا في المشروعات البحرينية للديمقراطية تطبيقات ملموسة لعديد من أفكارها من ناحية. وأضافت لتلك الأبعاد جانباً اقتصادياً بتوقيعها لا تفاقية التجارة الحرة بحيث تداخلت السياسة والاقتصاد. بل إنه كان للتطورات السياسية المتسارعة في البحرين وطبيعة التحالفات التي أقامتها القيادة البحرينية مع أطراف في واشنطن أثرها في تسريع توقيع اتفاقية التجارة الحرة.

وبالعودة إلى موضوع الكتاب بشأن تاريخ البحرين أبان حكم الشيخ عيسى بن علي يبدو لنا أن بعض ما جرى في منعطف القرن التاسع عشر قد يفيد رؤية ما جرى مع منعطف القرن العشرين. وكلما اتضحت رؤية تلك الأحداث، وأحسنت قراءة التاريخ، واستبعد المرء منها اسقاطاته الذاتية حسب الإمكان، بات التقدم للأمام ممكنا على نحو أفضل. وبقدر ما تقرأ سياسات دول عظمى سابقة تجاه البحرين، بقدر ما سيضاء الطريق لقدر أكبر من فهم سياسات حالية.

الانعكاسات الدولية لأحداث البحرين 1904-1905

يلاحظ فرح مسألة شابت الحكم البريطاني في الخليج عبر تنظيماته الإدارية. فعلى رغم الحذق الإداري البريطاني وتنظيمهم للخدمة المدنية فقد بدا في الفترة التي هي قيد البحث نزوعاً لدى المقيمين السياسيين ليكونوا أكثر استعداداً من رؤسائهم في الهند أو لندن لأخذ قرارات عملية جريئة دفاعاً عن المصالح البريطانية. ولم يمل المقيم السياسي في بوشهر مثل رؤسائه إلى أن يأخذ بنظرة واسعة حول المضامين الدولية لأعماله في الخليج. كان المقيمون ينزعون إلى أخذ المصالح البريطانية في الاعتبار فقط. لقد توجب على حكومة الهند، بالمقابل، أن ترسم قرارتها السياسية فيما يخص شؤون الخليج بشكل يدفع المصالح الأوسع للهند البريطانية، خصوصاً حين يتعلق الأمر بالأمن والتجارة.

وفيما يخص الحكومة البريطانية بشكل عام، ووزارة الخارجية بشكل خاص، فإن شؤون الخليج لم تشكل إلا قسماً صغيراً من المصالح الدولية الواسعة الهائلة الكاسحة لمصالح بريطانيا والإمبراطورية. وهكذا فبينما ينظر المقيم في بوشهر بشكل واضح إلى ضرورة اتخاذ موقف عملي حاسم إزاء مصالح بريطانيا في الخليج، فلربما سيكون مرجحاً لحكومة الهند وعلى نحو أكبر، الحكومة البريطانية أن تكتشف عدداً من الأسباب للتقدم في الأمر بمزيد من الحذر.

فرض الحماية بين الواقع والقانون

شكل هذا الوضع عاملاً أساساً في تاريخ التغيير في العلاقات الإنجليزية ? البحرينية بين 1869 وحتى .1915 وبشكل عام يمكن أن يقال إن التأثير الضابط للسلطات الأعلى، ولأولئك الذين في بريطانيا خصوصاً، زاد إذ تزايدت أهمية منطقة الخليج في الدبلوماسية العالمية بدءاً من تسعينات القرن التاسع عشر وما بعد. فقبل ذلك بقليل، امتلك المقيمون السياسيون في الخليج حرية أكبر لأخذ المبادرة فيما يخص العلاقات البحرينية ? الإنجليزية مما حصلوا عليه لاحقاً. يعود توقيع معاهدتي 1880 و1892 إلى حد كبير لمبادرات المقيمَين روس وتالبوت تباعاً. وخصوصا، معاهدة 1880 التي شكلت ولسنوات تلت الأساس القانوني لموقف بريطانيا كحامية للبحرين، فقد صممها ووقعها روس دون أي شكل من التوجيهات المباشرة من رؤسائه.

وبينما اضطرت حكومة الهند للتنبيه بأنه وبشكل عام، كان ذلك العمل غير ملائمٍ، وافقت هي والحكومة البريطانية للتصديق على المعاهدة. وفي سنوات لاحقة، وعلى سبيل المثال في نوفمبر 1907 في وقت جرت فيه التوصية لمكتب الهند لإدخال قانون المستعمرات (Order in Council for Bahrain) للبحرين، بدت حكومة الهند أكثر من سعيدة لتشير إلى معاهدة 1880 كأساس لـ ‘’حماية’’ بريطانيا على البحرين.

ويقول فرح بأنه وبدءا من نهاية تسعينات القرن الماضي وما بعد باتت مبادرات المقيمين أكثر عرضة للتفحص النقدي ولسيطرة أكبر من فترات سابقة. ويمكن النظر لانتقاد اللورد جورج هاملتون عام 1899 للكولونيل مالكولم ميد، المقيم السياسي البريطاني بالخليج، وسط سياق الأهمية المتعاظمة للخليج في الدبلوماسية الدولية. فلم يكن ميد أكثر مغامرة من سابقيه مثل روس. إلا أن الواقع، بأية حال، هو أن الأزمنة قد تغيرت: فالحركة التي كانت ستعتبر ليست أكثر من شجاعة عام 1880 باتت تعتبر عام 1899 خالية من المسؤولية تماماً.

وتبقى الحقيقة أيضاً حسب فرح، أنه تحت المقيم السياسي ميد فإن موظفين بريطانيين في بوشهر مثل جَسْكين وبريدو والذين عملوا في البحرين كوكلاء سياسيين، اتصفوا بنزوع حب التدخل في الشؤون الداخلية للبحرين إلى حد لم يسبق له مثيل. وكان ذلك بارزاً بشكل كبير في حالة جَسْكين، الذي كان أكثر من سعيد لكبح تصرفات الشيخ عيسى تجاه رعاياه. وفي الوقت نفسه، فإن هذا الحماس الإصلاحي لم يكن ليحصل على أية فرصة للموافقة عليه من قبل أي من حكومة الهند أو من السلطات في لندن، وهما جهتان لم تملكا حينها أية رغبة في ذلك في البحرين. وبالطبع يبقى صحيحاً بأن كلا من الحكومة البريطانية وحكومة الهند قد رغبتا في رؤية إصلاح الإجراءات الجمركية للشيخ عيسى. ولم يكن ذلك بأية حال، بهدف أساس للحكومتين وهو التدخل في الشؤون الداخلية للبحرين. فما كان خلف ذلك هو القلق البريطاني على الجمارك هو الرغبة في إيجاد تمثيل سياسي أفضل هناك، بأقل ما يمكن من الكلفة للدخل الهندي، في وقت كان فيه الوضع البريطاني بكامله في الخليج واقعاً تحت ضغط متزايد.

وأدى الاتجاه الذي تبلور منذ منتصف تسعينات القرن التاسع عشر لنقل المبادرات السياسية فيما يخص البحرين من دائرة المقيم السياسي إلى دائرتي حكومة الهند والمملكة المتحدة إلى أن تكون الخطوة القادمة في تطور الأساس القانوني للعلاقات القانونية الإنجليزية – البحرينية صعبة بشكل خاص. فلقد حول توقيع اتفاقيتي عامي 1880 و,1892 وكما لاحظت حكومة الهند في نوفمبر/ شباط ,1907 حول البحرين عملياً إلى نوع من المحمية. وحقيقة، من المهم الإشارة إلى أن المسؤولين البريطانيين استخدموا في العقدين الأخيرين من القرن التاسع عشر والأول من القرن العشرين وبحرية واسعة كلمة ‘’محمية’’ فيما يخص البحرين في مراسلاتهم، وإن كان ذلك يتم فقط حينما لا يكون ذلك علنياً. وتمثلت المشكلة في أنه، ودون شك كان ذلك جزئياً بسبب الطريقة التي تم فيها التوقيع على معاهدتي 1880 و,1892 لم تمثلا المناسبتين لإعلان الحماية البريطانية للعالم. وقبل منتصف العقد الأخير من القرن التاسع عشر الأغراض البريطانية أن يمارس البريطانيون تأثيرها بشكل غير رسمي. وبعدها، وعندما بات متوجباً تأكيد موقع بريطانيا في علاقتها مع المشيخة، شكّل واقع عدم الإعلان عن كون الأخيرة محمية إحراجاً. كانت المشكلة أن مثل ذلك الإعلان يتطلب توقيتاً مناسباً إذا أريد لمنافسي بريطانيا في الخليج ألا يردوا بتحديات دبلوماسية. وبالمقابل – وطالما أن مثل ذلك الإعلان لم ينشر – كان الطريق سالكاً للقوى الأجنبية لإحراج بريطانيا بطرق أخرى.

القضاء إزاء الأجانب

ويواصل فرح القول إن ذلك الوضع قد برز للسطح حين طفت مسألة شمول القضاء الأجانب في البحرين. وعلى رغم أن الوكيل البريطاني في البحرين كان يتأكد من الناحية العملية أن مثل هؤلاء الأجانب يحصلون على العدالة، فلم يكن له أساس شرعي لممارسة تلك السلطة. وبسب ذلك الأمر بات الباب مشرعاً للقوى الأجنبية أن تطالب بامتيازات فوق القوانين الوطنية، فشكل ذلك سبباً أساساً للتحضير لفرض قانون المستعمرات (Order in Council for Bahrain) على البحرين. وبالرغم من ذلك، فإن المخاوف من المستتبعات الدبلوماسية ساعدت على تأخير بروز هذا القانون لعقد تقريباً بعد أن تقدمت حكومة الهند لسن مثل هذا النظام لمكتب الهند في نوفمبر .1907 وبشكل أقل مباشرة، تم دعم الموقف البريطاني عبر الترتيبات التي تم التوصل إليها عبر مسيرة دبلوماسية بريطانيا الأوروبية والإمبراطورية قبل الحرب العاليمة الأولى. فحمت التحالفات مع فرنسا وروسيا، والاتفاق مع تركيا الموقف البريطاني في المشيخة عبر وسيلة جعل المنافسين يتنازلون عن ادعاءاتهم. واستمر الإيرانيون في التمسك بمطالبهم غير الفاعلة. واستمرت العلاقة المجددة مع السلطة السعودية بكونها غير ثابتة حتى عقد معاهدة .1915 وغير مجيء الحرب العالمية الأولى كل هذه الظروف، ووفر كذلك الفرصة لإعلان نظام البحرين (Bahrain Order in Council) الذي وضع العلاقات مع البحرين على أرضية قانونية آمنة.

ولربما يشار هنا إلى أن موقع بريطانيا الإمبريالي في الخليج كان أكثر تعقيداً كظاهرة للمؤرخين للتفسير من الموقف البريطاني في مستعمرات تحكم مباشرة. ففي المناطق الخاضعة للحكم غير المباشر، مثل الخليج، فطالما سعى البريطانيون إلى السلطة والهيمنة دون الرغبة في الاعتراف بأنهم يمارسونها، خشية قيام تحديات من قوى أخرى. وعلى ذلك فلقد برزت ثغرة بين ما يود البريطانيون الاعتراف به في العلن وما كانوا يعرفون أنه قائم في واقع الحال في السر. وبإعلان (Order in Council for Bahrain) في عام ,1915 تضاءل حجم هذه الثغرة، وبالتالي، وبهذا القدر، انتقلت علاقة البريطانيين بالبحرين خطوة بعيداً من الحكم غير المباشر إلى الحكم الاستعماري.

أحداث 1904-1905

يخصص فرح فصلاً كاملاً لعرض أحداث مرت بها البحرين بين عامي 1904-,1905 وطبعت تاريخها الحديث. ولربما عكست تلك الأحداث نمطاً من الصفات التي ستطبع تلك الجزيرة بطابعها، وتجعل من عجينتها مصدراً لأمور تتجاوز أحياناً حجم الأحداث والمكان لتصبح قضايا عالمية، وتجد الجزر وسكانها في وسط دوامة لاتعرف مصادرها.

الآن وبعد مرور مائة سنة على الأحداث نرى أن السنوات الخمس الماضية في البحرين شهدت أحداثاً وإن اختلفت في تفاصيلها إلا أنها تتفق وأحداث السابق في كونها سرعان ما تعكس أبعاداً تفوق أبعادها المحلية. هذه الظاهرة يجب أن يقبل بها سكان الجزر على أنها من صفات البلد وتدخل في صلب تكوينه.

جرت أحداث 1904-1905 حين نشب خلاف بين خادم للشيخ علي بن أحمد بن علي آل خليفة، ابن عم الحاكم، وخادم لتاجر ألماني هو روبرت ونكهاوس. فحسب رواية فرح المعتمدة على روايات بريطانية أن الشيخ علي أراد تطبيق نظام السخرة على أحد العمال الذي كان يعمل بدوره لدى ونكهاوس، وأدى رفضه إلى تبادل الضرب بين عاملين لدى ونكهاوس وخدم الشيخ علي جرح فيه أناس عدة من بينهم بانسُن أحد مساعدي ونكهاوس من الألمان مما دعا الأخير إلى الاستنجاد بالسلطات البريطانية ممثلة في الوكيل السياسي جَسْكين، طالباً منه تحقيق ثلاثة شروط: الأول هو جلد المهاجمين علناً بحضور بانسُن وتعويضه من حساب مهاجميه مبلغ 1000 روبية كتعويض وإلغاء نظام السخرة إزاء أي من العاملين مع الأوروبيين.

رفع جَسْكين، وكان على وشك مغادرة منصبه، المسألة إلى الشيخ عيسى بن علي فوراً وطالب بمعاقبة الجناة ونفيهم ودفع الألف روبية كتعويض لبانسن. ووعد الشيخ عيسى بإجراء تحقيق في الأمر ولكنه قام بدوره برفع رسالة إلى برسي كوكس المقيم السياسي في بوشهر وأرفق رسالته بوجهة نظر كتبها الشيخ علي بن أحمد عن المسألة. ويعتقد فرح أن قيام الشيخ عيسى بذلك يعكس في جوهره التغير الذي طرأ على العلاقة بين البحرين وبريطانيا بحيث يضطر الحاكم إزاء مثل تلك الحادثة إلى رفعها إلى المقيم السياسي. ولقد حصل الشيخ على الرد الذي تمثل في أن أفضل وسيلة لحل الموضوع هو محاولة الوصول إلى تسوية سريعة للأمر على أن يتم ذلك بالتشاور مع الوكيل السياسي الجديد، وهو بريدو. وحين اطلع الأخير على جوانب المسألة بدا أميل إلى الأخذ بوجهة نظر الحاكم، وحاول إقناع ونكهاوس بالوصول إلى حل وسط.

إلا أن ونكهاوس رفض مثل هذا الاقتراح ورفع الأمر إلى القنصل الألماني في بوشهر. ووسط تفاعل القضية وانتقالها من قضية محلية إلى قضية دولية، اشتعلت مسألة أخرى كان الشيخ علي بن أحمد طرفاً فيها من ناحية، وأحد أفراد الجالية الإيرانية الموجودة في البحرين. وبدأت الحادثة بشجار بين خدم الجانبين تطور لينتهي بمضاعفات طائفية من ناحية، وأبعاد دولية أخرى حين أحيلت المسألة إلى وزير الخارجية الإيراني. ثم تضاعفت المسألة لتضع قضية حماية الأقليات الأجنبية في البحرين حينها، حيث أخذت قضية بانسُن لتشير إلى الأقليات الأوروبية، والقضية الأخرى لتشير إلى الأقليات من جنسيات أخرى. وفي كلتا الحالتين اعتبرت بريطانيا نفسها حامية لتلك الأقليات من ناحية وللأمن والقانون في البحرين من ناحية أخرى.

ولكن، وحسب رواية فرح، فإن للأمور تشعباتها التي كانت تدفع الأمور إلى هذا التعقيد. فأول الأمور أن مثل تلك الأحداث لو جرت قبل عشر سنين من وقوعها لما أثارت تعقيدات دولية، ولكنها حدثت في وقت كانت بريطانيا تريد أن تفرض حضوراً جلياً في البحرين وبالذات لمواجهة التحديات الدولية لوجودها في الخليج. تقابل ذلك مع رغبة عيسى بن علي لمواجهة تزايد النفوذ البريطاني في البحرين متناسياً الدور البريطاني في تسلمه مقاليد السلطة في البحرين، وهو دور كانت تعيه بريطانيا وتوقعت من عيسى بن علي أن يعيه بدوره وأن يتصرف على أساسه. وبالمقابل كانت لعلي بن أحمد طموحات لحكم البحرين، ويورد فرح أنه على رغم اعتراف الحكومة البريطانية بحمد بن عيسى كولي عهد له، إلا أنه لم يكن يستشعر اطمئناناً من على بن أحمد على ذلك.

وشكلت السيطرة على الجمارك وإصلاحها أمراً للشد والجذب بين البريطانيين وعيسى بن علي، وبينما كانت بريطانيا تطالب الشيخ بالقيام، إلا أنه كان يرى في ذلك تزايداً في النفوذ البريطاني على صلاحياته لا يتماشى مع بنود معاهداته معها، وهو في ذلك يتناسى تبدل الظروف، وتزايد اهتمام بريطانيا في الخليج من ناحية، ودورها المتعاظم في البحرين. وكان المسؤولون البريطانيون على دراية بالصراع الخفي بين علي بن أحمد وعيسى بن علي وينطلقون منه، ولذلك كانوا ينتظرون أية فرصة لوضع مسألة الجمارك على الطاولة مع الشيخ.

في ذلك الحين كان الساسة الإنجليز وعلى رأسهم اللورد كرزون قد بدلوا سياساتهم في الخليج وفي البحرين بشكل خاص، ولم تعد المنطقة سكة خلفية في الطريق إلى الهند. بات مسؤولو حكومة الهند ووزارة الخارجية البريطانية راغبين في نقل الوضعية القانونية للبحرين لتصبح محمية كاملة. ولذلك رأوا في أحداث البحرين حينها الفرصة لتأكيد واجبات بريطانيا المعنوية تجاه حماية الأقليات، ورأو في أي محاولة للمساس بذلك تجاوز للمسؤولية المعنوية لبريطانيا. وبذلك يتشكل المدخل المناسب الذي تجد فيه بريطانيا من زيادة نفوذها في البحرين دعماً دولياً.

بأية حال تصاعدت الأمور، بعد تعقيدات عديدة، قَدم برسي كوكس المقيم السياسي في الخليج ومعه مطالب محددة للشيخ عيسى في 25 فبراير/ شباط 1905 : نفي الشيخ علي بن أحمد لمدة خمس سنوات وكل من تزعم الأحداث وأن يعوض كل من أصيب من الإيرانيين بـ 2000 روبية، وأن ينشئ الشيخ عيسى حرساً موثوقاً للمحافظة على النظام والقانون في المنامة، وأن يعلن منع استخدام السخرة لعاملين يستخدمهم أوروبيون في البحرين، وأن يتفهم الشيخ عيسى بأن الحكومة البريطانية لن تقبل بعد ذلك بإي رفض لنصائح لها في الأمور المهمة. وتم احتجاز الشيخ حمد ولي العهد حينها لتنفيذ تلك المطالب.

ولقد تم تنفيذ المطالب وبشكل أوضح أمران: أولهما الحضور النافذ للبريطانيين في البحرين، وهو ما سيترك أثره لعقود قادمة تستمر إلى يومنا هذا. والثاني: أن البحرين أصبحت في قلب العالم: فأي مجريات بها لن يكون بعدها إقليمياً فقط، وإنما سيكون له بعد عالمي.

كيف عاش الشيخ عيسى بن علي؟

* هذه كانت حجرته الخاصة، أمامها ليوان وفي مقدمته سطح. وحين كان يخرج الشيخ عيسى ويقف على السطح بقرب الحائط، ويلقي بالنظر غرباً تمتد أمامه المحرق، ويظهر الساحل أمامه منبسطاً وممتلئاً بالسفن الراسية أو المغادرة.

الوقت – العدد 348 – السبت 15 محرم 1428 هـ – 3 فبراير 2007  

الوقت 349 – الأحد 16 محرم 1428 هـ – 4 فبراير 2007

أضف تعليق

مرايا التراث

في تاريخ وتراث البحرين