قرى البحرين المطموسة: بين الفرضيات الأسطورية والتاريخ «الخرافة»

main_fdd-3

بقلم حسين محمد حسين
الوسط البحرينية

لو قُدِّر لنا أن نشاهد صوراً جوية لقرى البحرين قبل مئة عام، لتمكنا من رؤية عشرات المقابر الأثرية التي تضم عشرات الآلاف من القبور، كلها تحيط بمواقع القرى القديمة. فعلى الساحل الشمالي لجزيرة أوال تمتد تلال القبور بدءاً من جدحفص وتمتد غرباً حتى قرية المرخ، ثم تستدير وراء قريتي بني جمرة والقريَّة وتصل إلى سار ثم الهملة، وبعدها يتواصل امتدادها على الساحل الغربي لجزيرة أوال بدءاً من الدمستان وحتى منطقة المرخ التي تقع بعد رأس الجزائر. أما على الساحل الشرقي، فتنتشر قبور أثرية أخرى في أبي عشيرة وجزيرة النبيه صالح، وتمتد جنوباً حتى خليج الفارسية. وكذلك في وسط جزيرة أوال، نشاهد عشرات الآلاف من تلال القبور، بدءاً من بر سار وتمتد حتى توبلي وعالي والمنطقة التي شيدت بها مدينة حمد وكذلك المنطقة التي شيدت بها مدينة عيسى (Andersen 2007) ،(During-Caspers 1980) ،(Porter and Boutin 2012) ،(Salles 1984). كل تلك القبور كانت موجودة قبل مئة عام. أما في الوقت الراهن فلم يبق من هذه القبور شيء، فقد نهب ما نهب منها، وجرف ما جرف، وطمس ما طمس من آثارها. أما الآثار التي كانت بها فقد وضعت في مخازن لا يمكن الوصل إليها، إما في متحف البحرين أو المتحف البريطاني أو متحف هيرست في كالفورنيا (During-Caspers 1980) (Porter and Boutin 2012).

إن هذه الصورة المأساوية لوضع التراث الوطني البحريني يعطي تخويلاً صريحاً لجهة رسمية واحدة تكون هي الوحيدة القادرة على كتابة تاريخ البحرين القديم بصورة علمية، ليس لأنها تمتلك الكوادر المؤهلة، بل لأنها تحتكم على الآثار في مخازنها. والمؤسف أن هذه الجهة الرسمية، أو المحسوب عليها، لا تنشر إلا نتائج منتقاة، لا تعطي صورة كاملة عن تاريخ البحرين القديم بل تعطي صورة منتقاة له. بل إن بعض الكتاب بدأ بصياغة فرضيات أسطورية تؤطر لكتابة تاريخ البحرين القديم. وعلى الرغم من أن الدراسات المستحدثة قد أثبتت عدم صحة تلك الفرضيات، إلا أن البعض لم يتوان من إعادة إنعاشها والترويج لها في إطار علمي يواكب العصر، ومراهناً على أن أحداً لن ينتقدها لاعتقاده بغياب جميع الدلائل العلمية التي تنقضها.

إعادة إنعاش الفرضيات الأسطورية

قبل مئة عام صاغ النبهاني فرضيته الشهيرة حول بناء مسجد الخميس حيث زعم أن بانيه هو الخليفة الأموي عمر بن عبدالعزيز، وعلى رغم أن هذه الفرضية ثبت خطؤها إلا أن البعض بدأ يعيد صياغة هذه الفرضية بصورة أخرى؛ ففي العام 2011م طور Carter هذه الفرضية، فهو يرى أن أقدم استيطان في البحرين في الحقبة الإسلامية كان في جزيرة المحرق، بينما لا يوجد أثر دال على وجود أي استيطان في جزيرة أوال في العصر الجاهلي أو في الحقبة الإسلامية المبكرة. ويحدد Carter، اعتماداً على نتائج التنقيبات في البلاد القديم، أن الاستيطان في جزيرة أوال بدأ مع بداية تأسيس المنطقة المحيطة بمسجد الخميس وذلك في القرن الثاني الهجري، وبما أن هذا التاريخ يتزامن مع خلافة الخليفة الأموي عمر بن عبدالعزيز، فقد جعل Carter من هذا الأخير مؤسساً للبلاد القديم، وكان هذا التأسيس بداية جديدة في البحرين، وذلك بعد القضاء على الحركات المتمردة في البحرين والتي ربما تمركز جزء منها في جزيرة المحرق (Carter 2005, Carter and Naranjo-Santana 2011, p. 66).

إن هذه الفرضية الأسطورية تلغي وجود الحقبة التاريخية الممتدة من العصر الجاهلي الي نهاية القرن الأول الهجري من تاريخ جزيرة أوال؛ حيث يبدأ تاريخ الجزيرة مع بداية القرن الثاني الهجري أي في النصف الأول من القرن الثامن الميلادي. هذه الفجوة التاريخية من تاريخ أوال تعرض لها أكثر من باحث، ومنهم من يمد في هذه الفجوة فيجعلها تمتد ما بين العامين 450 – 700م. فإن تم التسليم بهذه الفرضية فسوف تصبح الروايات التاريخية التي تشير إلى تاريخ استيطان قبيلة عبدالقيس في جزيرة أوال في العصر الجاهلي، مجرد «خرافة» ولا وجود لدليل مادي عليها. وكذلك، سوف يصبح الحديث عن وجود أعلام إسلامية مشهورة من القرن الأول الهجري عاشت في البحرين، أيضاً مجرد «خرافة»، فليس هناك وجود لأية أعلام مشهورة عاشت في أوال، ولا توجد لها مقامات، وأن كل حديث حول ذلك مجرد «خرافة». وبذلك يصبح البحث في جذور هوية طائفة بأكملها في البحرين مجرد «خرافة».

وهكذا، أصبح من الضروري عند الحديث عن جذور القرى في البحرين، أن نرد على مثل هذه الفرضيات الأسطورية وندحضها بالدليل العلمي، ولا سبيل إلى ذلك إلا بالرجوع إلى الروايات التاريخية الثابتة وما يوازي ذلك من آثار مادية.

أوال في العصر الجاهلي

إن أقدم ذكر لاسم أوال ظهر في شعر الشاعر الجاهلي عمرو بن قميئة (448 م – 540 م):

هَل تَرى عيرَها تُجيزُ سِراعاً كَالعَدَولِيِّ رائِحاً مِن أُوالِ

وفي شعر للمخبل السعدي (المتوفى العام 633 م):

تَحَمَّلنَ مِن ذاتِ الإِزاءِ كَما اِنبَرى بِبَزَّ التِجارِ مِن أُوالَ سَفائِنُ

وكذلك في شعر لتميم بن أبي (554 م – 657 م)

مَالَ الحُدَاةُ بِهَا لِحَائِشِ قَرْيَةٍ وكَأَنَّهَا سُفُنٌ بِسِيفِ أَوَالِ

ويلاحظ هنا أن اسم أوال ذكر مرتبطاً بالسفن، وخصوصاً «العدولي». وسفن العدولي هي سفن ضخمة ربما كانت تستورد من خارج الخليج العربي، وقد سميت نسبة إلى قوم من التجار أو إلى منطقة معينة (العماري 2010. مجلة الواحة العدد 59). هذا يدل على وجود استيطان في أوال ووجود حياة تجارية عليها أيضاً. فأين سكنت شعوب العصر الجاهلي في البحرين؟ وأين آثارهم؟.

مقبرة العصر الجاهلي في أوال

على رغم أن غالبية نتائج التنقيبات، التي جرت على قبور حقبة تايلوس، لم تنشر ولم يطلع عليها العديد من المختصين والمهتمين، إلا أن ما نشر منها وما تسرب منها كافٍ ليمكننا من رسم تطور الاستيطان على جزيرة أوال. فبعض هذه الدراسات وبالخصوص تلك التي تناولت نتائج المنقبين المستقلين الذين سربوا المقتنيات الأثرية إلى خارج البحرين قبل سن قانون الآثار عام 1969م (During-Caspers 1980) ،(Porter and Boutin 2012)، إضافة لنتائج البعثة الدنماركية (Bibby 1954)، هذه الدراسات، تشير إلى وجود مقبرة مهمة في جزيرة أوال. هذه المقبرة بها تطبق آثاري متسلسل ومستمر يبدأ بحقبة دلمون ثم تايلوس ثم العصر الجاهلي وتليها الحقبة الإسلامية المبكرة، أي أنها تحتوي على آثار تشمل تلك الحقبة الممتدة بين الأعوام 450م – 700م وهي الحقبة التي زعم البعض أنها مفقودة في تاريخ جزيرة أوال.Bibby 1954) ،(Salles 1984) ،(Andersen 2007) ،(During-Caspers 1980) (Rice 1971.

هذه المقبرة تمتد ما بين ثلاث قرى، من قرى الساحل الشمالي لجزيرة أوال، وهي جدحفص والمقشع والحجر. لاحظ هنا المسميات التي ارتبطت بهذه المقبرة، «الحجر»، وهو اسم قريب من اسم «هجر» وهو اسم المملكة التي ضمت جزر البحرين والتي سادت في الفترة ما بين 220 ق.م – 140 ق.م، أما جدحفص فتذكرنا بحفص بن عبدالقيس، أحد فروع قبيلة عبدالقيس. فيا ترى ما هي الأسرار التي ستكشف عنها هذه المقبرة فيما يخص تاريخ قرى البحرين؟. يتبع.

العدد 4291 – السبت 07 يونيو 2014م

أضف تعليق

مرايا التراث

في تاريخ وتراث البحرين